1 كلّما يخفق ابن أخي في مناظرة المحامين يأتيني أبوه لاعنا الممتحنين الذين لا يعملون بغير الوساطة والرّشوة، وساخطا على وزارة العدل التي تغطّيهم. حاولت إقناعه ببطلان شكوكه، وبنزاهة وزارة العدل ، لكنه كان يعود إليّ على مدى ثلاثة أعوام وشكوكه تزداد ، ويطالبني بأن أدلّه على كتف يسند ابنه، أو مرتش ييسّر له النّجاح. حدث هذا منذ سبعة عشر عاما. وفيما بعد بسبعة أعوام ترشّحت إحدى قريباتي لمناظرة «الكاباس» مرّات ولم تفلح، وكانت تلحّ قبل الدّورة والأخرى على والديها ليساعداها على دفع رشوة لوسيط سبق لبعض زميلاتها التعامل معه، ولكنّهما رفضا واتّهما زميلات البنت والوسيط بالتّحايل والخداع. والحقيقة أن لا أحد منّا صدّق حدوث مثل هذه الأفعال في الأوساط التّعليمية. بعد هذا بخمسة أعوام اخترنا الاصطياف في شطّ مريم، وصادف وجود مسكننا بجوار فيلا فخمة متبوعة بمخزن كبير تدخله الشاحنات يوميّا، فنسمع صوت ارتطام الصناديق، أو ما يشبه شرشرة الحجارة، ثم تغلق الأبواب ليلا ويبدأ طواف الحرّاس بكلابهم للتفقّد. كان البيت لأخت الرئيس بن علي المشتهرة بأنشطتها التجارية ومعاملاتها مع الأوساط العليا في الإدارة. كانت زوجة ابني قد أكملت حينئذ دراستها في كلية الطّبّ بسوسة، وتهيّأت لمناظرة ستجري في الخريف، وتخشى أن لا تفوز فيها، بسبب ما يشاع عن تزييف الوساطات والارتشاء للنتائج . فهمس لها البعض: «زوري صاحبة الفيلاّ، ومعك هدية محترمة بمبلغ كذا فيتحقّق المراد، وهي معتادة على ذلك.» لكننا رفضنا جميعا الاقتراح. وفي أيامنا هذه روى لي صديق من ضبّاط الحرس أنه في جولة مع عائلته وبالثّياب المدنية توقّف بمفترق طرق في ريف القيروان ليسأل عن مكان ما. توجّه إلى حيث يقف عون مرور تحت مظلّة فرأى عند قدميه دجاجة مكتوفة وصندوق طماطم وحزمات خضر متنوّعة، فلم يشكّ أنها رشاوى من تجّار السوق الأسبوعية. كان الأمر واضحا، لكن الضابط أحبّ مداعبة العون فسأله: «هل ستحوّلون السّوق إلى هنا؟». أجابه مخاطبه بصفاقة: «وهل هذا يهمّك؟ تفضّل لسيارتك، المكان الذي تقصده من هنا». 2 رحم الله زمنا كان قابض الّرّشوة فيه كالقابض على جمر، يتستّر ويحاذر أن يحاكم، بل قد يخشى توابع النّدم وعذاب الضمير. فالمجاهرة بأفعال كهذه كانت مجلبة عار، وموضوع تجريم ومتابعات عدلية إن افتضحت. لكنّما الحال تحوّلت، في العشرين سنة الأخيرة، والمحرّمات تحلّلت، ولم تعد المعاملات المشبوهة تنقص من همّة الرّجل، بل قد تعليها إذا أتاه من ورائها جاه وثراء. وما تسامح القضاء معها إلاّ دليل على أنه أصاب من خيراتها ما جعله يصمت، ويطيل الصّمت. إن توفير الحظوظ لفئة على حساب فئة أخرى مقابل رشوة أو مصالح متبادلة هو منتهى الظّلم، ومؤشّر على الدّناءة الأخلاقية، إذ هو يعطي الأثرياء مزيدا من فرص إذلال الفقراء، مما يقوّي شهيّة هؤلاء إلى البحث عن المال من أيّ سبيل ، وبهذا يصير همّ المجتمع الوحيد هو البحث عن الثراء ، لتوفير اللّذائذ بأنواعها. وعندما قامت الثورة كان «مجتمع الهات هات» في أزهى أيامه، وقد يقول التاريخ أنّ الفساد كان من وقودها. ولو فرزنا النّاس بعد أن لوّثهم اللّئام و حثالة الأقوام لوجدناهم فئات ثلاث: المرتشون وأكوام ثرواتهم / الرّاشون الدّافعون لقضاء المصالح/والصّامتون الواقفون للفرجة، وأحيانا للتّصفيق. ولا ندري إلى اليوم هل نبت الفساد مع عهد بن علي ثم استفحل عند نزول أقاربه وأصهاره إلى ميدان؟ أم أنه ككل الظّواهر الاجتماعية بدأ تلقائيّا في بؤرة ما، ثم لما لم يجد استنكارا توسّع كرقعة الزّيت؟ أم أنه من قديم كان أمرا مقبولا في الأعمال الخاصّة، وكلّما تسامحت الدّولة معه ، لامس شؤونها برفق أوّل الأمر، ثم تغلغل حين سكت عنه كبار المسؤولين؟ تساءلت إحدى الصّحف (1)هذه الأيّام: «هل كلّ هذا الفساد الثّابت في المؤسسات العمومية مرّت ملفّاته أمام هيئة مراقبي الدّولة كالزّيت فوق الماء؟» وهي تعني أنّ الرّقابة تغاضت عن الإخلالات تبعا لتعليمات تلقّتها، أو لرشاوى تقاضتها، والدّليل على ذلك تجميعها لمهامّ مراجعة حسابات المؤسسات والمنشآت العموميّة في عدد ضئيل جدّا من مكاتب الخبراء المحاسبين، ممّن يشملهم رضاها . وقد يقاس على ذلك ما جرى في توزيع الصفقات العموميّة، وما يحيطه من شبهات. 3 «ممّا سمعته في إصفهان أن بعض الملوك القدامى قرّر أن يجعل في المدن الكبيرة بإيران حيّا خاصّا لأهل الإباحة والفجور لا يؤمّه غيرهم، وأن يحاط بسور يحفظ بقيّة أحياء المدينة من تسرّب العدوى. وقد أنجز الملك قراره في كثير من المدن باستثناء شيراز. حزّ الأمر في نفوس أهلها ، فأوفدوا أعيانهم لسؤال الملك عن أسباب هذا الاستثناء، وللمطالبة بإنجاز مثل هذا المشروع في مدينتهم على غرار سائر المدن، فكان جواب الملك أنه لم يتأخّر عن ذلك احتقارا لشأن مدينتهم، وإنما اختصارا في النّفقات، حيث تبيّن له بعد البحث أنّ السّور يجب أن يحيط بكامل المدينة».(2) (1) جريدة الحقيقة، العدد3، الثلاثاء 21 جوان2011، ص 3. (2) عبد الواحد براهم ، في بلاد كسرى ، عالم الكتاب ، ط2، تونس 2010.ص 182.