قدم الفنان عاطف بن حسين سلسلة من العروض لأوّل عمل مسرحي من إخراجه يحمل عنوان "نيكوتين" وذلك بقاعة الفن الرابع بالعاصمة.. المسرحية من بطولة عبد المنعم شويّات وشاكرة رمّاح وفؤاد لتيّم وهي من إنتاج مريم بالحاج ويدوم عرض هذا العمل ساعة ونصف ويتطرق بأسلوب كاريكاتوري ساخر إلى الحياة اليومية في تونس لعدة شخصيات... المكان إحدى الفضاءات الفنية.. والزمان بعد مرور أكثر من سنة على أحداث ثورة 14جانفي.. الواقع الاجتماعي التونسي تسوده العلاقات المتشابكة المختلفة حد التصادم وهو ما يقود حتما ودائما إلى التعادي... حاول هذا العمل أن يدلي بدلوه لتبسيط أزمة العلاقات المتوتّرة التي باتت تشكّل حياتنا السياسيّة والاجتماعية وتكشف بأسلوب كاريكاتوري ساخر مكامن الخلل ومواطن الوهن لدى شخصيات العمل في غياب ثقافة الحوار وثقافة التعايش مع الآخر رغم هوة الاختلاف... كل هذه المظاهر لم تصب فئة دون أخرى أو جهة معينة بل مست جميع الفئات ومن مختلف الانتماءات حتى السياسية منها... مسرحية "نيكوتين" وكما جاء على لسان مخرجها عاطف بن حسين في احدى تصريحاته "عمل موجه الى التونسي الذي يفكر ويتذكر". إنها دعوة الى تقريب وجهات النظر والى الالتفاف حول تونس باعتبارها قاسمنا المشترك في مناخ يجب أن يتسم بالتعايش السلمي بين كل الأفراد بعيدا عن الإيديولوجيات مهما كانت الانتماءات أو الأحزاب من خلال عمل فني اتسم بالنقد ليفضح الأفكار المسبقة التي يحملها البعض عن البعض الآخر.. وفي كلمتين مختصرتين "نيكوتين" عمل يؤكد بأن تونس فضاء شاسع يمكن له أن يتسع لجميع التونسيين... واذا ما اعتبرنا أن من أهم النظريات المسرحية التي عرفها المسرح منذ سنين، والتي كانت بحق أداة لتأسيس الخطاب المسرحي، ووسيلة ناجعة لتفعيله حركيا، وآلية فنية وجمالية قادرة على تأصيله ذهنيا وعمليا وتقنيا، نستحضر: نظرية الكوميديا السوداء أو ما يسمى كذلك ب"الكوميك" الصادم أو التراجيكوميدي. ويمكن اعتبار هذه النظرية الدرامية في الوقت نفسه نظرية مسرحية، وأداة درامية في الكتابة والإخراج. ويجمع هذا النوع من المسرح بين الطابعين: التراجيدي والكوميدي، ويهدف إلى تعرية المجتمع القائم، ورصد نمط الوعي لدى الجمهور الحاضر، إن كان وعيا كائنا، أو وعيا مغلوطا زائفا، أو وعيا ممكنا يستشرف المستقبل. ويسعى هذا المسرح جادّا، وذلك عبر آلياته الفنية والجمالية، إلى نقد الواقع المرصود والمشخص والمعروض، عن طريق السخرية، والهزل، والهجاء، والمفارقة، والضحك، والبكاء...إذا، ماهي المكونات النظرية والجمالية والفنية لهذا العمل المسرحي؟ الكوميديا السوداء الكوميديا الساخرة التي تصور المفارقة الصارخة بين السلوك والقيم، وتتسلح بالضحك، والجنون، والهذيان، والمحاكاة الساخرة، لتدمير كل الثوابت التي تستند إليها الأنظمة السياسية المعاصرة على جميع الأصعدة والمستويات. بمعنى أن الكوميديا السوداء فلسفة تأملية، تندد بعبثية الواقع وعدمية المجتمع، وتشدد على انحطاط القيم الإنسانية الأصيلة، وتحتفل بحياة العبث، والإخفاق، والفشل، والسقوط التراجيدي. إنها فلسفة الضحك الممزوج بالبكاء الهستيري.. كما تستند هذه الكوميديا إلى السخرية اللاذعة، والميل إلى التعيير الكاريكاتوري، وانتقاء الهابط والسوقي والفج من الألفاظ والتعابير والصيغ التداولية، والتركيز على ماهو غريب وشاذ في سلوكيات المجتمع ولغته، والخلط الهستيري العجيب بين الأساليب والفنون والأزمنة والأمكنة.. أما أسلوب التمثيل والعرض الذي اعتمد عليه المخرج عاطف بن حسين في تقديم الكوميديا السوداء من خلال "نيكوتين"، " فيتسم بالمبالغة الشديدة في الحركة ومسرحية الأداء المفتعلة، مع التأكيد على المفارقات المحسوسة الصارخة، كذلك اعتمد هذا المخرج بدرجة كبيرة على المؤثرات البصرية المبهرة، وأعمال القسوة السادية، والرموز السوقية... وأمام هذا الخلط الهستيري العجيب الذي يثير إحساسا بالرعب، يعرفه كل من تعرض يوما ما للإحساس باقتراب الجنون، لا يملك الإنسان إلا الإغراق في الضحك هربا من جنون العصر، واعترافا باستحالة إصلاحه... لقد اعتمد عاطف بن حسين في عمله "نيكوتين" أسلوب الكوميديا السوداء لانتقاد الواقع بكل مستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعريته فكاهيا وكاريكاتوريا، ومسخه، وتشويهه فنيا وجماليا، وكشف نواقصه الظاهرة، وتشخيص عيوبه المضمرة، باستعمال السخرية والهزل لرصد الواقع القائم، واستشراف لحظات المستقبل الممكنة. واستخدام المسرح التسجيلي والتوثيقي والسياسي، وتوظيف النقد الجدلي، والتسلح بالأسلوب الساخر المفارق، والارتباط بالواقع فهما وتفسيرا، والاستعانة بكل المقومات المسرحية، سواء أكانت كتلا بشرية أم أشكالا سينوغرافية، وذلك باعتبارها علامات سيميائية وأيقونية. ومن هنا، فالكوميديا السوداء لدى عاطف بن حسين هي دراما واقعية جدلية نقدية، تجمع بين الجد والهزل من أجل تغيير الواقع، وتحرير الإنسان على مستوى الوعي والذهن والشعور... فالكوميديا السوداء في هذا العمل قائمة على كوميديا الحوار، وكوميديا الشخصية، وكوميديا الموقف، وكوميديا الرؤيا. وغالبا، ما تنطلق هذه الكوميديا الصادمة من الأمثال الشعبية التالية:" كثرة الهم تضحك" و" إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده" و" شر البلية ما يضحك"...... والجدير بالذكر أن عاطف بن حسين، سبق وأن شارك في بعض الأعمال المسرحية آخرها كانت مشاركته مع جمال المداني في مسرحية "غلطة مطبعيّة" للمخرج حسام الساحلي ولم يتمكن العمل من تحقيق النجاح الجماهيري الذي كان متنظرا بقدر ما لاقى آداء بن حسين العديد من الانتقادات... ولكنه في هذا العمل يؤكد أنه فنان مسرحي من طينة نادرة وأن تواضع مشاركته السابقة ما هي إلا عثرة سرعان ما تداركها في عمل مميز وممتع يضيف للموجود ويكرس للابداع المفقود.