بقلم :سامي نصر- - أ- تطوّرالأنظمة العقابيّة: رغم الوجود المتواصل والمتلازم بين المجتمعات البشريّة والجريمة إلاّ أنّ العقوبات والجزاءات الجنائيّة اختلفت من عصر إلى آخر. حيث كانت الجزاءات الجنائيّة تنحصرفي العقوبات البدنيّة كالضرب المبرح والبتر والإعدام والتشويه... وكان جسد المتّهم هو المستهدف الأساسي من هذه العقوبات، أمّا السجن فكان عبارة عن مكان يحجز فيه المتّهم الذي ينتظرالمحاكمة (إثبات الإدانة أو البراءة). وبالتالي لم تمثل السجون موضوع بحث أواهتمام لدى المشرّعين والمنظرين. ومع أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشرميلادي بدأت بعض الدول تجعل من السجن عقوبة في حد ذاتها وأصبحت حريّة المتّهم هي المستهدفة من هذا العقاب إضافة طبعا للجسد مع المحافظة على طابع الانتقام والتشفّي من السجين. واقترنت في تلك الفترة العقوبة السالبة للحريّة بوجود الألم والتعذيب. وظهرت العديد من النظريات التي تربط الإجرام باللذة وتقول بضرورة تحقيق العدل من خلال مقابلة السلوك الانحرافي بعقوبة الألم... ومع بروز العقوبة السالبة للحريّة بدأ علم العقاب يتبلور شيئا فشيئا. ثم تطوّرت أغراض العقوبات السالبة للحريّة حيث استبدل التنكيل والتشفّي والتعذيب بفكرة الأغراض الإصلاحيّة والتأهيليّة. وبالتالي لم يعد الفعل الإجرامي هو موضع التفكير بل الشخص المجرم نفسه. وهناك 4 عوامل ساهمت بشكل مباشر في تطوير هذه الرؤية: * أوّلا، نظرة الكنيسة الكاثوليكيّة للظاهرة الإجراميّة: المجرم من منظور كنيسي (كاثوليكي) هو شخص عادي كغيره من أفراد المجتمع ولكنّه شخص مذنب من خلال ارتكابه للسلوك الإجرامي المنافي للتعاليم الدينيّة لأجل ذلك تجب عليه التوبة. وهذه التوبة تتطلب عزله عن المجتمع حتّى يتسنّى له مناجاة ربّه وحتّى تتقبل توبته. لذلك على المجتمع وعلى الدولة توفيرالمناخ المناسب لتوبته ومساعدته. ومن هنا نشأت فكرة السجن الانفرادي، أو النظام السجني الانفرادي. * ثانيا، انتشار الأفكار الديمقراطيّة وبروز العديد من المفكّرين والمنظرين في هذا المجال وخاصة تلك الأفكار الداعيّة للمساواة والمواطنة... * ثالثا، التقدّم الذي عرفته العلوم الإنسانيّة والاجتماعية مثل علم الإجرام علم العقاب دراسة عوامل الإجرام... * رابعا، بروز المنظمات الإنسانيّة المهتمّة بالشؤون السجنيّة والتي لعبت دورا أساسيّا في فتح الملف السجني وكشف العديد من الممارسات السجنيّة المتنافيّة مع مبادئ حقوق الإنسان والتي اتخذت طابعا إلزاميّا تجاه الدول خاصة تلك التي وقعت وصادقت عليها.إذن. فكرة إصلاح السجون كادت تكون معاصرة لولادة السجن كمؤسسة عقابيّة لا كمكان يوضع فيه المتّهمون. ومن بين الأفكار الإصلاحيّة للمؤسسة السجنيّة يمكن أن نذكر: * تحقيق «Chaptal» منذ1801، والهادف إلى تحديد الوسائل المستخدمة من أجل ترسيخ الجهاز السجني في فرنسا. * في 1829 تحقيق "Decazes" وفي نفس السنة صدرالتقرير حول البيوت المركزية الذي وضعه"Martignac". * في سنة1818، بدأت تتكون بصورة رسمية بعض الجمعيات المنادية بإصلاح السجون ك"جمعية تحسين السجون". ما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن انتقاد السجن و طرق معاملة السجناء و نجاعته في الحد من ظاهرة الانحراف و... ظهرت في فترة مبكرة جدا، والعديد من التعابير التي تكرر اليوم و بذات الصيغة تقريبا لاحظناها في فترة 1810و 1845 مثل :"السجون لم تخفض معدل الجرائم"، "الاعتقال يستثيرالتكرار"، "السجن هو المكان المناسب لصنع الجانحين"، "المعتقلون هم أقل جوعا وأقل بردا وحرمانا من العديد من المناطق الشعبية. -ب- الأنظمة السجنيّة: عرفت المؤسسات العقابيّة العديد من الأنظمة السجنيّة المتعاقبة والمعبّرة عن التطوّرات التي نادى بها بعض المفكّرين والمهتمّين بالشؤون العقابيّة بصفة عامة بحيث أصبحت علاقة النزلاء بالعالم الخارجي وعلاقتهم مع بعضهم البعض الأساس المحدّد لنوع وشكل التنظيم السجني. وعموما نلاحظ وجود على الأقل 6 أنظمة سجنيّة منها ما اندثر ومنها وقع تعديله ومنها ما يطبّق اليوم وهذه الأنظمة هيّ: * النظام الجمعي: يعتبر النظام الجمعي من أقدم الأنظمة السجنيّة التي عرفتها البشريّة، ويتميّز بالاختلاط بين المساجين ليلا ونهارا ويسمح لهم بهذا الاختلاط في جميع أعمالهم اليوميّة كالأكل والنوم والتحادث... ومن أهم مزاياه على السلطة هو عدم تكلفته وعلى المساجين يحفظ لهم توازنهم النفسي والمادي باعتبارهم أقرب الأنظمة إلى طبيعة الإنسان وأشبهها بالحياة الاجتماعيّة خارج أسوارالسجن. كما تقترب كثيرا من المبادئ الواردة في"القواعد النموذجيّة الدنيا لمعاملة السجناء". ولكن في المقابل جعل هذا النظام السجني من المؤسسة السجنيّة مدرسة لصناعة الجريمة وتكوين المجرمين والمحترفين، وتمكّن السجناء فيه من خلق أشكال تنظيميّة أخرى معاديّة للنظام الإداري وللقائمين على شؤون السجن. * النظام الفردي أو النظام البنسلفاني أو الفيلاديلفي: يرجع تاريخ هذا النوع من النظام السجني إلى نظام السجون الكنيسيّة التي ترى في السجن المكان المناسب لتحقيق التوبة وبالتالي الإصلاح، بحيث في السجن البنسلفاني يعتبر العامل الوحيد في الإصلاح هو الضمير. لذلك يتميّز هذا النظام بالعزل التام بين المسجونين ليلا ونهارا وتكون عدد الزنزانات متجانسا مع عدد المسجونين. ففي القرن السادس عشر انتقلت فكرة "السجن الانفرادي" من السجون الكنسيّة إلى السجون المدنيّة فمثلا في هولندا طبّق هذا النظام في أمستردام في نهاية القرن السابع عشر وفي إيطاليا في سجن سان ميشيل في روما ثم بني سجن في ميلانو سنة 1759 على نفس الشكل التنظيمي. أمّا عن تسميته بالنظام الفيلاديلفي أو البنسلفاني فيرجع ذلك إلى سجن كان موجودا في فيلادلفيا التابع إلى ولاية بنسلفانيا بالولايات المتّحدة الأمريكيّة والذي أنشأ سنة 1790 والذي كان يتّبع النظام الجمعي عند انشائه ولكن بعد فشله في السيطرة على المساجين وفرض النظام السجني عليه وقع اعتماد نظام العزلة. وفي سنة 1826 انشأ سجن آخر على نفس النمط في بنسلفانيا الشرقي ثم تلاه انشاء السجن الغربي في بنسلفانيا أيضا سنة 1829 بمدينة فلادلفيا ومثّل هذا السجن أحسن نموذجا لنظام السجن الفردي رغم ضخامته وعدد النزلاء به. -يتبع-