كم كنا نتمنى ونحن نستعد لتوديع سنة مليئة بالاهتزازات والازمات والتناقضات والمخاطر الامنية وغيرها لو أن الرسالة الصادرة عن النخبة الحاكمة على غير ما هي عليه، للأسف، من مشاهد الاستخفاف والاستهانة بالمواطن، وكم انتظرنا ونحن نطوي أحداث سنة لم تكن عادية في بلادنا لو أن روح المسؤولية والارادة الصادقة والاصرار على استعادة ثقة الراي العام كانت سيد المشهد بدل كل الصراعات والتناحر الحاصل، سواء تعلق الامر بما يحدث تحت قبة المجلس التأسيسي أو داخل "الترويكا" الحاكمة، من شد وجذب ومحاولات للاستئثار بالسلطة المطلقة التي قد تبلغ درجة التهريج أحيانا. وبعيدا عن السقوط في استعراض مختلف المشاهد التي تبلغ حد الاستفزاز لمتتبع الشأن الوطني في أحيان كثيرة، على الاقل خلال الساعات القليلة الماضية، فقد يكون في ما كشفه التصويت على ميزانية رئاسة الجمهورية للسنة القادمة، والتي تضمنت زيادة بنسبة 7,3 بالمائة مقارنة بالسنة الماضية، واحدا من الامثلة الصارخة على حجم الصراع الحاصل، لا داخل "الترويكا" والمعارضة فحسب، ولكن بشكل خاص في صفوف "الترويكا" ذاتها التي لم تعد قادرة على إخفاء خلافاتها وتباين خياراتها، بل وتضارب مصالحها، في صراعها من أجل تحقيق مصالحها الراهنة والمستقبلية. والامر لا يتوقف طبعا عند ما ظهر للعلن من نتائج التصويت ورفض لميزانية الرئاسة، التي تبقى من افرازات التجربة الديموقراطية الوليدة التي نحن بصدد اختبارها والتي تفترض رفض التصويت الآلي الساذج على كل المقترحات وفرض - على العكس من ذلك - النقاشات وفق قواعد اللعبة الديموقراطية التي من شأنها إعلاء المصلحة الوطنية العليا والحفاظ على موارد البلاد خاصة في خضم الظروف الاقتصادية الصعبة التي نمر بها... بل الواقع أن ما كشفته الاحداث التي رافقت التصويت على ميزانية الرئاسة كان على عكس من ذلك، فقد أزاحت القناع عما بقي من العقد المنفرط لتحالف "الترويكا" الذي دخل مرحلة التعايش القسري منذ فترة والذي بات مرشحا للانهيار في كل حين. وقد كان للاتهامات التي أطلقها رئيس الجمهورية المؤقت لحركة "النهضة"، بالتغول ثم مطالبته في مرحلة ثانية بحكومة كفاءات تخرج البلاد من أزماتها المتتالية دوره في كشف ما آلت إليه "الترويكا" اليوم بعد أكثر من عام على توليها إدارة البلاد. ولاشك أن في مجاهرة عدد من النواب بشكوكهم في احتمالات اعتماد الميزانية الخاصة بالرئاسة لتمويل حملة الرئيس المؤقت الانتخابية ما يكشف الكثير عن أزمة الثقة المتفاقمة داخل "الترويكا" رغم كل محاولاتها لإخفاء هذه الحقيقة... على أن الخلافات حول الميزانية قد لا تكون سوى القطرة التي قد تفيض الكأس وتؤجج صراع "الترويكا"، بل ان بعض المحللين ذهبوا الى حد الاجماع على أن ما أطلق عليها "رفيق غيت"، نسبة للتسريبات التي لاحقت وزير الخارجية في الساعات القليلة الماضية، بإهدار المال العام، قد لا تكون سوى الوجه الآخر للصراع داخل "الترويكا" قبل إعلان التحوير الوزاري المؤجل... والواقع أنه في الوقت الذي لا يجد فيه كبار المسؤولين في البلاد غير مطالبة الشعب بمزيد الصير والتحمل والتريث الى حين زوال الشدة حبا لله وللوطن، فإنه لا يمكن لهؤلاء أن يتصرفوا بغير ما يتحدثون، وإن الاجدر بهم أن يكونوا القدوة للمواطن العادي الذي تتفاقم أعباؤه ومعاناته تحت وقع القروض ولهيب الاسعار المستعر والذي لا يمكنه ان يستوعب بأي حال من الأحوال إطلالة الناطق باسم الرئيس في ندوة لم يعلن عنها في القصر الرئاسي متوعدا بأنه لا مجال للتنازل بمقدار مليم واحد في ميزانية الدولة، كل ذلك وسط اصرار على انتفاع كبار المسؤولين في البلاد بامتيازات مدى الحياة مكلفة ولا تتماشى وإمكانيات البلاد الراهنة... وفي انتظار ما سيحمله العام الجديد من مفاجآت أخرى للتونسيين، ربما يكون من المهم بالنسبة ل"الترويكا" أن تتذكر تلك المقولة الخالدة: "عندما يقل شكركم وتكثر الشكاوى بشأنكم فليس أمامكم إلا أن تعتدلوا أو تعتزلوا...".