إن الحديث عن أخلاقيات المهنة الصحفية قد يقع استعماله أحيانا للحد من حرية الصحافة وممارسة الرقابة عليها، بينما يجب في الواقع أن يكون رافدا للحرية ومكرسا لها... هذا ما أكده الأستاذ جون بول مارتوز الاستاذ بمعهد الصحافة بالعاصمة البلجيكية بروكسيل والخبير لدى عدد من المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة والدفاع عن الصحفيين خلال مائدة حوار نظمتها نقابة الصحفيين التونسيين أول أمس بمقر النقابة. خلال كلمة الترحيب بالضيف ذكرت نجيبة الحمروني نقيبة الصحفيين التونسيين أن موضوع "التعديل الذاتي" للصحافة لم يكن غائبا خلال سنة 2012 عن مشاغل نقابة الصحفيين وبرامج عملها، إلا أن النقابة لم تذهب الى حد وضع استراتيجية في هذا المجال وهو ما ستتلافاه خلال السنة الحالية، حيث سيتم تنظيم عدد من اللقاءات والحوارات حول الموضوع. مدافع شرس زمن القمع واثر ذلك أخذ الكلمة السيد كمال العبيدي رئيس هيئة اصلاح الاعلام لتقديم الضيف، فذكر أن جون بول مارتوز سبق له أن تردد مرارا على تونس منذ سنة 1990 للتحقيق حول انتهاكات حرية الصحافة في تونس واضطهاد الصحفيين، وتميز بوقوفه الى جانب الصحفيين التونسيين المدافعين عن حقوق الانسان بوجه عام، وعن حرية الصحافة بوجه خاص، مضيفا أن الضيف هو أستاذ في علوم الصحافة بجامعة بروكسيل وصحفي بجريدة "لوسوار" البلجيكية وخبير مستشار لدى عديد المنظمات المهتمة بالصحافة والدفاع عن الصحفيين. وأوضح كمال العبيدي أن جريدة "لوسوار" تميزت خلال العهد البائد بمثابرتها على التشهير باعتداءات النظام على الحريات وفي مقدمتها حرية الصحافة. وقد تابع خلال سنوات مديدة تجارب آليات التعديل في المجال الصحفي في العديد من الديمقراطيات العريقة أو المجتعمات حديثة العهد بالديمقراطية. أداة حرية لا رقابة وأوضح الضيف في بداية تدخله أن "أخلاقيات المهنة الصحفية" قد يقع إساءة استعمالها فتنحرف لتصبح أداة للرقابة والصنصرة، بينما يجب أن تكون في الواقع رافدا للحرية، مفيدا أن التجربة البلجيكية في هذا المجال تتمثل في بعث "مجلس للأخلاقيات الصحفية"، اذ برزت الحاجة لمثل هذا الهيكل بعد بروز قضايا للشذوذ الجنسي ضحيتها أطفال، هزت الرأي العام في بلجيكيا وتعاملت معها بعض وسائل الاعلام من ناحية تجارية بحتة غير محترمة لأخلاقيات المهنة، وهو ما دفع السلطة السياسية الى التفكير في بعث هيكل تعديلي للصحافة رغم وجود هيكل صلب جمعية الصحفيين البلجيكيين يعنى بأخلاقيات المهنة، الا أن السلطة السياسية رأت أنه غير كاف لأن سلطته معنوية لا غير. وأمام محاولة الدولة التدخل بثقلها في هذا الميدان بادر الصحفيون وأرباب وسائل الاعلام باستباق الاحداث لبعث "مجلس أخلاق المهنة" وأجهضوا المحاولات من خارج القطاع للتدخل في الموضوع. ويضم هذا المجلس مجمل وسائل الاعلام وله أوجه تدخل متعددة، فهو يتلقى شكاوى المواطنين والسلط وغالبا ما تحل المشاكل بطريقة صلحية ويقع تجنب الذهاب الى المحاكم. كما يلعب المجلس دورا استشاريا لمجمل وسائل الاعلام، وأيضا يذهب الى معاهد الصحافة وجامعاتها، كما يتولى طبع منشورات خلال المناسبات السياسية الهامة كالانتخابات لكي يغذي في الصحفيين وأرباب الصحف الحس الأخلاقي وثقافة "أخلاقيات المهنة". وقد رأى الاستاذ جون بول مارتوز أن عمل هذا المجلس رغم أهميته يبقى منقوصا من حيث التأثير في الرأي العام، ولذلك فهو يدعو الى أن تتعهد وسائل الاعلام بنشر ملاحظات المجلس واحترازاته السلبية التي أصدرها ضدها، أي لا بد من اشهار هذه الاخطاء وعلى نطاق واسع ليطلع الجمهور العريض على الأسباب و"الخفايا" التي وقفت وراء وقوعها، مما من شأنه أن يمتن العلاقة بين المتلقي ووسيلة الاعلام ويساهم في "التثقيف الصحفي" للجمهور، مبديا استغرابه من غياب ما أسماه "الثقافة الصحفية" حتى في المجتمعات الديمقراطية العريقة، فالجمهور العريض لا يعرف عموما كيف يشتغل الصحفي والآليات الداخلية للعمل الصحفي، وهي هنة لا بد من تداركها مثلا عبر تخصيص المدارس لحصص أو مواد للتعريف بالعمل الصحفي.