غريب ما يحدث في عالمنا العربي رغم أن الحقيقة أنه من الخطإ الحديث عن عالم عربي واحد بل عن أكثر من عالم اختلفت مصائبهم وتعددت مآسيهم وتكررت خيباتهم ولم تصدق قمة من قممهم في تلبية مطالب الشعوب والارتقاء الى تطلعاتها، رغم توفر كل عناصر وأسباب الاتحاد بينها، من وحدة اللغة والدين والحضارة والتاريخ والتي لم تتوفر لغيرها من الدول التي وجدت طريقها لوحدة الصف رغم كل الاختلافات بينها. غريب ما يحدث اليوم في عالمنا العربي -الذي يبدو دون غيره من مناطق العالم- محاصرا بالخراب والدمار، غارقا في دماء أبنائه التي هانت على المتقاتلين فيه. ولو أننا ألقينا نظرة عاجلة على الأخبار المتواترة عن عالمنا العربي فما عسانا نجد؟ وما عسانا نقول سوى أن الدماء باتت تحاصر المشهد وتنذر بالأخطر؟. فالأنباء القادمة من العراق بلد العلماء والأدب والفنون تنقل معها كل يوم أخبار قوافل الضحايا على وقع عودة الانفجارات اليومية وما تخلفه من ثكالى وأرامل وأيتام. بلد الرافدين لا يكاد يعرف الهدوء إلا ليسقط مجددا في الاقتتال، وكأن حرب البسوس، حرب الأربعين عاما، تعود مجددا بعد أن تسلح أصحابها بكل أنواع الأسلحة المدمرة. والمشهد الدموي لا يتوقف عند حدود العراق، فعن الوضع في سوريا حدث ولا حرج.. فقد اختلطت الأوراق وتداخلت الاحداث وساد الغموض المشهد. قوات الأسد والجيش النظامي يطلقان النيران في كل الاتجاهات، وقوات المعارضة لا تتوانى بدورها في الرد بكل الطرق المتاحة، والشبيحة ومعها كل الجماعات المسلحة المدفوعة الأجر تتنافس في تدمير سوريا ودفن أبنائها، ومن يعرف إطلاق الرصاص، ومن لا يعرف، كل على حدّ سواء يتعلم أصول القتال، وليس مهمّا أن يتضاعف سقوط الضحايا. فأرخص ما في عالمنا العربي اليوم هو الانسان الذي لم تعد له قيمة تذكر فقد تحوّل إلى مجرد رقم في سجلات الولادات والوفيات. المشهد الراهن في سوريا لا يتوقف عند حدود اقتتال أبناء الأرض الواحدة بل تجاوزه إلى تعمد الطيران الاسرائيلي خرق الأجواء السورية واستباحة حدود وحرمة بلد لا يزال جزءا من الخارطة العربية حتى وإن علقت عضويته في جامعة الدول العربية، ولا يزال عضوا في الأممالمتحدة وإن أعلنت الاممالمتحدة رفضها ممارسات النظام القائم فيه والعاجز عن حماية شعبه. ما حدث في سوريا إهانة مضاعفة لهذا البلد كما لجامعة الدول العربية التي تحتمي بالصمت إزاء العدوان الاسرائيلي عليه وعلى شعبه. ومن سوريا الى لبنان، فإن هذا البلد الذي تحمّل الأمرّين طوال سنوات الحرب الأهلية المدمّرة يواجه انعكاسات ما يحدث في الجوار السوري وهو أمر لن يمرّ دون أن يترك تداعياته ويزيد لبنان واللبنانيين معاناة. اليمن وإن كان بعيدا فإن أخباره ليست بالبعيدة، ولليمن مسلسل طويل مع الانفجارات اليومية وأخبار المعارك الدائرة في مواجهة «القاعدة» في ربوعه ولا يكاد يمر يوم دون أنباء عن استهداف المقرات العسكرية ووقوع المزيد من الضحايا والخسائر يوما بعد يوم. الجزائر بدورها عاشت قبل أيام على وقع أحداث عين أميناس ومن قبلها الاخبار اليومية للجماعات المسلحة في محاولاتها التسلل عبرحدودها الى مالي.. هل يمكن في هذا المشهد استثناء دول الربيع العربي؟! طبعا لا.. فالمشهد القادم إلينا من مصر ومحاولات الشدّ والجذب بين سلطة الاخوان والمعارضة لا تنبئ بموعد قريب مع الاستقرار، وما حدث خلال الساعات القليلة الماضية على مشارف القصر الرئاسي وتكرار المشاهد التي كانت وراء سقوط نظام مبارك، يؤكد أن الاختبار القادم الذي ينتظر الرئيس المنتخب محمد مرسي لن يكون هينا وهو ليس بالرهان الحاصل في كل الاحوال في ظل المكابرة والعناد. أما عن الهدوء الظاهر في ليبيا، التي تستعد بدورها لإحياء الذكرى الثانية من ثورة 17 أبريل التي وضعت حدا لأربعين عاما من نظام القذافي، فقد لا يكون سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة في بلد بلا مؤسسات أو جيش يحمي البلاد والعباد من سيول الأسلحة المنتشرة فيه والتي امتدت لتهدد الجوار. وليست تونس بمنأى عن ذلك بعد الكشف عن كميات مسربة من مختلف أنواع الاسلحة في البلاد.. فلسطين تلك حكاية أخرى في المشهد العربي والمحنة تبقى مستمرة بعد أن طغت أخبار الانقسام والتطاحن بين الفلسطينيين على أخبار الاحتلال ومخططات تهويد المقدسات ومصادرة الاراضي واغتيال النشطاء السياسيين.. يحدث كل هذا وقد كنا نأمل أن تحمل الينا رياح الربيع العربي بشائر محو كل المشاهد والصور القاتمة وكل أسباب اليأس والقنوط من الخارطة وأن تعيد الى النفوس الأمل بغد أفضل.. طبعا لا يمكن إلا لغافل أو جاحد أن ينكر أن حاضرنا بكل تناقضاته ليس إلا نتيجة لإرث عقود طويلة تعاقب فيها الظلم والاستبداد والفساد وجمود الفكر والعقل، فكان أن غابت الوطنية وحل محلها العبث بالأوطان والشعوب التي خرجت لتوّها من حالة الغيبوبة التي سقطت فيها طويلا بفضل واقع الحريات الجديد الذي فرضته الثورات الشعبية ومنحتها فرصة فريدة لاستعادة زمام الأمور وتقرير المصير الذي ستختاره، فإما أن تلتحق بركب الأمم الراقية ويكون لها شأن بين الأمم، وإما أن تعود إلى الغيبوبة وتفرّط في ثمار الثورة التي لم تبدأ بعدُ قطفها...