: قرار الجبالي وحسابات الكسب والخسارة - في يوم أسود عاشته تونس، خرج مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي على الشعب التونسي ليقول أي كلام ومن بعده مباشرة يطل حمادي الجبالي رئيس الحكومة في شكل غير عادي وموقف غلب عليه التأثر ليعلن عن قراره "الانفرادي" المتمثل في حل الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط لا تترشح للانتخابات المقبلة مقرا بالفشل وبوجود مأزق حقيقي تمر به البلاد اليوم..بعد ذلك بساعات وفي نفس الليلة كان راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة مباشرة في القناة الوطنية ليعلن بلهجة فيها الكثير من المعاني أن قرار الجبالي انفرادي ويلزمه وحده وأن قيادة حركة النهضة في اجتماع طارئ وسترد على ما قرره الجبالي...وجاء الرد صباح أمس عن طريق الناطق الرسمي باسم حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي مؤكدا ان الحركة غير موافقة على الموقف الذي اتخذه رئيس الحكومة وأن الحركة ترى أن البلاد مازالت في حاجة الى حكومة "تضم شخصيات سياسية وائتلافية تحظى بدورها بقاعدة سياسية" نافيا علم حزبه بقرار رئيس الحكومة حمادي الجبالي .. جدل سياسي كان منتظرا في ظل ظهور الانشقاق بين حمادي الجبالي المترأس لشق الحمائم صلب حركة النهضة وراشد الغنوشي المترأس لشق الصقور المتصلب ضمن الحركة والذي لاح منذ مدة للعلن وبدا ان الجبالي عاجز عن تسيير حكومته في ظل تدخل الشق المتصلب في قراراته وتعييناته وفي ظل تلميحات الجبالي عدم رضاه عن الوضع الراهن في البلاد وعجز بعض افراد حكومته وفشلهم في اداء الدور المنوط بعهدتهم وخاصة منهم الاطراف المقربة من الغنوشي على غرار رفيق عبد السلام وزير الخارجية ونورالدين البحيري وزير العدل وغيرهما.. الجبالي وحسابات الكسب والخسارة الخلاف صلب حركة النهضة انزاح عنه الغطاء لتزيد جرأة الجبالي وقراره بحل الحكومة وتأكيده على انه قرار فردي لم يرجع فيه للأحزاب والاطراف الفاعلة في حدة الخلاف والانشقاق وربما "الحرب الباردة" بين الشقين خاصة ان الجبالي بدأ يلاقي تعاطفا من الشعب ومن عدد كبير من السياسيين بما في ذلك المعارضة على حساب بقية قيادات النهضة الذين وجدوا أنفسهم محل اتهامات من الجميع.. وبالتالي فانه وبحسابات الكسب والخسارة وعلى المستوى السياسي يمكن اعتبار حمادي الجبالي قد كسب بقراره جولة كبرى قربته من الجميع وأظهرته بمثابة رجل الدولة المنقذ للبلاد ولو على حساب حزبه وقياداته التاريخية. لكن القرار السياسي الذي اتخذه الجبالي، قوبل بإشكال قانوني واجرائي لا نشك ان رئيس الحكومة الحالية لم يقرأ له حساب والمتمثل في عدم قانونية تغيير الحكومة بأكملها وبقرار فردي دون الرجوع الى المجلس الوطني التأسيسي باعتبار ان الجبالي لم تصدر على لسانه كلمة "حل الحكومة" بل اكتفى فقط بمصطلح تشكيل حكومة تكنوقراط. وقانونا وجب عليه حل الحكومة كاملة وتقديم استقالتها للمجلس التأسيسي. والمخول الوحيد لحل الحكومة هو رئيس الدولة. وبالتالي فان الجبالي وبعد ان وجد نفسه اليوم وسط الطريق لن يتراجع عن قراره رغم تهديدات النهضة باتخاذ قرار حاسم ضده بل من المؤكد انه سيواصل في الطريق التي اختار وهو الاستقالة وتحويل ملف الحكومة الى رئيس الجمهورية الذي سيكون مجبرا على تعيين شخصية أخرى من الحزب الفائز بالانتخابات.. وباعتبار ان الجبالي ما يزال ينتمي الى حركة النهضة (الى حد الآن مع احتمالات تجميد عضويته او سحبها من قبل صقور النهضة) بإمكان المرزوقي اعادة تكليفه بتشكيل الحكومة ووقتها يمكن للجبالي لأن يختار حكومة تصريف أعمال مصغرة مشكلة من تكنوقراط وهو الحل السياسي والقانوني الاسلم. وهو الحل الذي يمكن أن يسير بالبلاد الى انتخابات تشريعية ورئيسية ويعيد الهدوء والاستقرار اليها بعد أزمة سياسية تواصلت حوالي 7 أشهر بين تحوير وزاري يمكن ن يقع او أن لا يقع ووسط مزايدات سياسية ومساومات واتهامات وفتح ملفات هذا وذاك ووسط أحزاب غاضبة وأخرى تهدّد بالانسحاب من الترويكا ليتحول المجال الى سوق من الفوضى السياسيّة لبيع وشراء الكراسي والحقائب الوزارية. خطوة الجبالي كذلك ستعيد الاعتبار للمرزوقي الذي سيجد نفسه ولأول مرة تقريبا صاحب القرار ومفاتيح اللعبة بيديه وهو ما من شأنه أن يجلب حزب "المؤتمر" (حزب الرئيس)-الرافض لحد امس لقرار الجبالي- الى صف رئيس الحكومة لتبقى خيارات الطرف الثالث في "الترويكا" ضعيفة ان لم نقل محدودة وهو ضرورة مواصلة خيار مساندة الجبالي والمرزوقي باعتبار ان النهضة ستنقسم الى شقين وسيكون الشق الاكبر مع حمادي الجبالي تقريبا بحكم انكشاف تصلب الشق الآخر. مبادرة توحيد بادرة حمادي الجبالي، تمثل فعلا بادرة توحيد للصفوف من شأنها أن تخرج بالبلاد من أزماتها العميقة التي هزت كل اركانها سواء منها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. بادرة جريئة أوقفت منطق المحاصصة الحزبية والتجاذب والتهافت على المناصب واقتسام الكعكة بعد ان آل الوصع بالبلاد الى الهاوية وبعد أن نخر العنف والكراهية ونبذ الآخر جسم السلم الاجتماعي، وأوقع البلاد في أتون العنف الذي وصل حد الدم والصفية الجسدية وبلغ حده باغتيال المناضل شكري بلعيد. ان قرار الجبالي الجريء يعتبر المخرج المشرّف للجميع من أزمة طالت أكثر من اللزوم وأدخلت البلاد في نفق لا نعرف منتهاه والمطلوب من جميع القوى السياسية الوطنية دعم هذه المبادرة وفسح الطريق امام المجلس التأسيسي لضبط خارطة طريق الاستحقاقات الانتخابية القادمة وإنهاء صياغة الدستور. تحييد القطاعات السيادية المؤكد أننا نعيش اليوم أزمة لكن المشكل يبقى في ماهية هذه الازمة وهل يمكن تصنيفها حقا في خانة "الأزمات" وان كان كذلك فهل نحن عاجزون فعلا عن الخروج من عنق الزجاجة ومن الحلقة المفرغة التي اصبحت تدور فيها الحكومة رغم وضوح رؤية رئيسها ورغبته المكشوفة لتخطي عقبة صعبة وجد نفسه أمامها بفعل نيران صديقة وأخرى "غير صديقة". فالتقييم الجيو -استراتيجي لوضع بلادنا وما يحيط بها من تجاذبات اقليمية ودولية يؤكد ان تونس في حاجة اليوم الى استقرار سياسي والى إسراع في حسم مسألة الحكم بكثير من الايثار والبراغماتية عبر تكوين حكومة سماها الجبالي تكنوقراط والافضل ان نسميها حكومة أزمة غير مرتبطة بأغلبية في المجلس التأسيسي وتتولى تصريف الاعمال الى حين تنظيم انتخابات تشريعية تؤسس لشرعية فعلية وتبث الامل في دوائر الاعمال الوطنية والدولية عسى ان يتمكن الاقتصاد الوطني من ايقاف حالة التقهقر التي تقف حائلا دون تلبية تطلعات التونسيين في التنمية المطلب الرئيسي للثورة. وكل التجارب التي سبقت بلادنا في الانتقال الديمقراطي اثر الثورات او الاضطرابات التي هزت كيان الدولة مع تفاوت الدرجات اثبتت اهمية القطاعات السيادية سواء القضاء أو الامن أو الجيش أو الديبلوماسية التي لا يمكن ان تخضع لضغوطات أو محاولات للتطويع للانحراف بخطها الجمهوري ولجعلها منحازة لأجندات حزبية لا تتماشى مع ما قامت من أجله الثورة أي الحرية والكرامة في ظل دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان ويكون فيها كل التونسيين سواسية أمام القانون. ولا بد من التأكيد على حتمية حسم مبدأ حياد الاسلاك السيادية لان عدم التوافق على هذه المسألة سيكون مصادرة لفرص نجاح اي تغيير سياسي في بلادنا. لكن ومن حسن حظ هذه البلاد ان لنا ادارة ثابتة ساهمت في انجاح الثورة بتأمين سير المرافق العمومية دون اي ارتباك كما ان اطاراتها واعوانها لم يحاولوا عرقلة مسار الانتقال الديمقراطي بل وقفت الادارات وخاصة القطاعات السيادية بحزم للدفاع على النظام الجمهوري ولمنع اي انحراف في اتجاه ضرب اركان الدولة والدليل على ذلك ما سجل في الآونة الاخيرة من تصاعد احتجاجات القضاة على حرمانهم من ضمانات الاستقلالية وتوحد النقابات المستقلة لأسلاك الأمن للوقوف امام محاولات تدجين المؤسسة الامنية ومطالبات المؤسسة العسكرية بتحييد الجيش عن اللعبة السياسية وبدسترة وضع القوات المسلحة في النظام السياسي القادم واصرار اطارات وزارة الخارجية على رفض تسييس الديبلوماسية وعلى المطالبة بضمانات دستورية لمهنية السلك الديبلوماسي. وإن صدقت نبوءة من قال أن من له الحق ينتصر دائما على من له السلطة اذا انحرف بها، فان شعبنا سينتصر في معركة الإبقاء على الدولة ومنع تحويلها إلى أجهزة إدارية متشرذمة تحت رحمة تنظيمات موازية وستكون للكفاءات التونسية في كل الوزارات مسؤولية تاريخية في الانتصار لفلسفة المواطنة والمرفق العمومي. أما الصراعات الحزبية الضيقة فيجب أن تتوقف وتراعي مصلحة الوطن العليا التي تبقى فوق كل اعتبار لأن تونس فوق الجميع وستبقى كذلك. ◗ سفيان رجب