السؤال الغائب اليوم عن المتنافسين على الساحة السياسية وهو السؤال الاكثر الحاحا بالنسبة للمواطن العادي: ماذا لو عجزت الحكومة المستقيلة او الحكومة المرتقبة عن تسديد اجور الموظفين؟ وماذا لو وجد التونسي نفسه نهاية الشهر بلا جراية؟ الواقع أن الابتسامات العريضة والمصافحات الحارة والجلسات غير الرسمية التي جمعت الرئيس المؤقت برئيس حركة النهضة بالامس في اطار البحث عن مخرج للأزمة الراهنة بعد استقالة السيد جمادي الجبالي لم تهوّن من حجم الازمة ولم تخفف المخاوف والانشغال الحاصل في النفوس ولم تحمل معها، رغم كل الكلمات الهادئة التي عمد الى انتقائها رئيس حركة النهضة، رسائل طمأنة حقيقية من شأنها أو تؤشر الى قرب الخروج من النفق المسدود أو تدفع للاعتقاد بأن مصلحة البلاد قبل العباد. بل إن رسائل الطمأنة كانت ملغمة وزادت حجم المخاوف وقد كان يفترض أن تهدّئ النفوس. الافلاس سواء كان اقتصاديا أو سياسيا ليس بالامر البعيد وقد جاء الكشف عن مخازن سلاح مكدسة غير بعيد عن العاصمة ليزيد الاجواء غموضا ويدفع مرة أخرى للتساؤل عن حاجة عصابات السلاح لذلك الكم الهائل من الرشاشات وقاذفات الصواريخ وغيرها وعن المستهدف الحقيقي من وراء كل ذلك السلاح، وعما لم يكشف عنه حتى الآن من ذخيرة وغيرها من وسائل القتل والخراب... المشهد اليوم قاتم كيفما قلبته، بل ان الاحساس السائد أننا أصبحنا في وضع لا نحسد عليه وقد كنا أيام الثورة موضوع اهتمام واحترام وتقدير كل الشعوب التواقة للحرية والتي جعلت من تونس قدوة لها قبل أن تنقلب الآية... ولعله من المضحكات المبكيات أن تسعى دول الجوار في نفس الوقت الى اعلان مخاوفها مما يحدث في تونس وأن تعلن الجزائر اتخاذ اجراءات أمنية إضافية لتأمين حدودها مع تونس. أما ليبيا التي اقتدت بثورة الشعب التونسي في انتفاضتها على دكتاتورية العقيد فقد اختارت خلال الذكرى الثانية لثورتها إغلاق حدودها مع تونس حتى بتنا في وضع المصاب بمرض معد يحاول الجميع تفاديه وتجنب عدواه. أمام هذا الوضع فإن كل الدّهاء السّياسي المعتاد والابتسامات العريضة وكل الشعارات السياسية لا يمكنها أن تحجب الواقع أمام من أراد فعلا قراءة المشهد على حقيقته... لن نتوقف عند ما أثاره خطاب رئيس حركة النهضة في"مليونية" مساندة الشرعية نهاية الاسبوع الماضي وهو الذي اختارعن قصد أوعن غير قصد أن يقسم التونسيين بين مسلمين وغير مسلمين وحمّل خلالها الإعلام بشكل واضح المسؤولية في تسميم الاجواء في البلاد وإفشال عمل الحكومة، فقد يكون في ما كشفته الساعات الاخيرة من إصرار الفرقاء السياسيين الذين جمعتهم لعبة المصالح على التأكيد على عدم استخلاص الدروس من التجربة الحاصلة أو الاستفادة مما حدث حتى الآن من اهتزازات ما يؤكد إصرارا على السيرعكس التيار والدفع بالبلاد الى هاوية الصدام الملعون الذي بات يهدد الجميع منذ جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد التي يبدو أنها ستظل بمثابة اللعنة التي ستطال الجميع الى حين كشف الحقيقة كاملة. افلاس جيب التونسي وتدهور اقتصاد البلاد لا يبدو حتى الآن أنه يشغل بال صناع القرار وزعماء أحزاب الترويكا المتفجرة أو غيرها من أحزاب المعارضة المنشغلين بأمر التحالفات الجديدة وإعادة اقتسام المقسم رغم كل التحذيرات بشأن امتداد السيناريو اليوناني في البلاد مع تفاقم مظاهراستفحال الازمة الاقتصادية بعد تخفيض وكالة الترقيم الامريكي "ستاندارد اند بورز" الترقيم السيادي لتونس مجدّدا الى تصنيف ب ب سلبي، وهو ما يعني الكثير من القراءات عندما يتعلق الامر بواقع الاقتصاد في البلاد واحتمالات مزيد تعقيد عملية التداين التي ستتحول الى نوع من الابتزاز لإمكانيات البلاد المتدهورة أصلا حيث سيكون الحصول على القروض التي تحتاجها البلاد خاضعة لجملة من الشروط المجحفة التي ليس لها بد ولكنها ستزيد حتما حجم الاعباء وتثقل كاهل البلاد وتجعل عملية البناء والإصلاح أمرا مؤجّلا... قد ينسى الجميع في خضم المقاربة مع الازمة القائمة في اليونان أن سبعة وعشرين بلدا من دول الاتحاد الاوروبي ستكون حاضرة لمساعدة الشعب اليوناني وإنقاذه من الكارثة في حين أن الواقع ما انفك يؤكد أن تونس ليس لها غير عقول وسواعد وإرادة أبنائها لإخراج البلاد مما هي فيه وأن مستقبل الاجيال القادمة رهين وحدة خيار التونسيين في رفض العنف والتطرف وإعادة بناء الثقة المفقودة بينهم من أجل تحصين حقيقي لأهداف الثورة في بلد بلا نفط وفي حاجة دائمة لجهود نسائه ورجاله وشبابه لإطعام كل أبنائه... مرة أخرى نعم لليونان أكثر من بلد أوروبي يدعمه ويجنبه السقوط والانهيار ولكن في المقابل فإن تونس لا يمكنها إلا التعويل على شعبها صانع ثورتها وحاميها من السقوط.