بعد عام من التقلبات التي غلب عليها الهدوء، تحت حكم حركة النهضة، تواجه تونس ما بعد الثورة العديد من التحديات. وفي هذا الصدد، يعرض كل من الأستاذ سوجيت شودري، والأستاذ ريتشارد ستاسي تقييماً لبعض النظم السياسية من حيث أفضلها نفعاً لتونس وأبنائها. في الثاني والعشرين من نوفمبر،أصدرالرئيس المصري، محمد مرسي، إعلاناً أعطى بموجبه لنفسه صلاحيات طائلة. وقد استقبل المصريون الإعلان باستنكارواسع النطاق، ووصفوه بأنه مناهض للديمقراطية، وشبيه بالاستبدادية الرئاسية التي سبقت صحوة "الربيع العربي". وغيربعيد عن ذلك، في تونس، فإن صلاحيات واسعة بدأت تتسرب إلى الرئيس بشكل هادئ ومستكين في سياق المفاوضات الدستورية التي تُجرى في البلاد. ولقد عدنا مؤخراً من تونس حيث كنا نناقش موضوع السلطات التنفيذية مع بعض أعضاء المجلس الوطني التأسيسي. وقد وجدنا أن القوى العلمانية الليبرالية تؤيد تبني النظام شبه الرئاسي نظاماً دستورياً، وذلك لحماية مصالحها الشخصية، بوصفها أحزاب أقلية داخل نظام ديمقراطي جديد ربما تهيمن عليه التيارات الإسلامية. ووجود رئيس دولة قوي يعتبرمحوراً جوهرياً بالنسبة إلى هذا النظام، إذ يكون بمثابة القوة الموازية للبرلمان. ولكن، في رأينا الشخصي، إن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر، إذ هناك بدائل أفضل منها مطروحة على الساحة. إن النظام شبه الرئاسي عبارة عن مزيج بين النظام الديمقراطي البرلماني والنظام الديمقراطي الرئاسي، إذ أنه يجمع بين رئيس دولة منتخَب بشكل مباشر، ورئيس وزراء ومجلس وزراء من شأنهما أن يتوليا زمام الحكم إذا حظيا بدعم برلمان منتخب. وطوال الجزء الأكبر من القرن العشرين، كان النظام شبه الرئاسي بمثابة الابن الضال، غير المألوف، بين عائلة النظم الديمقراطية. وقبل تجربة "الموجة الثالثة" من التحولات الديمقراطية، في أواخرالقرن العشرين، لم يكن هذا النظام مطبقاً بشكل كامل سوى من قِبل فرنسا الديغولية، وفنلندا الصغيرة، وفايمارألمانيا التي فشلت بشكل مؤسف، واسبانيا ما قبل الحرب الأهلية. ومن الجديربالذكر، أن جمهورية أيرلندا أيضاً خاضت تجربة تبني النظام شبه الرئاسي، ونصَّبت رئيساً لا يمكن أن يقال عليه سوى أنه رئيس شرفي. ولكن، خلال الأعوام العشرين الأخيرة، ازدهرالنظام شبه الرئاسي وانتعش، إذ بات ثلث دول العالم ذات النظم الديمقراطية يتبنى النظام شبه الرئاسي للحكم. ويعد النظام شبة الرئاسي بمثابة الخيارالدستوري الأساسي المطروح على الساحة في تونس، لاسيما بالنسبة للأحزاب العلمانية الليبرالية. وفي ما يلي السبب: من حيث المبدأ، توجد ثلاثة خيارات لهيكلة العلاقات التنفيذية-التشريعية، ألا وهي: النظام الديمقراطي الرئاسي، والنظام الديمقراطي البرلماني، والنظام الديمقراطي شبه الرئاسي. فبالنسبة إلى فكرة النظام الديمقراطي الرئاسي، فهي فكرة مجهضة من البداية، ويعزى السبب في ذلك إلى ما ميّزالرؤساء العرب من تجاوزلسلطاتهم حتى أصبحت الديكتاتورية سمتهم، وإلى ما حولوا المجالس التشريعية إليه: مجرد أجهزة مطواعة لسياساتهم. أما النظام الديمقراطي البرلماني، فطالما كان محبَّذاً من قِبل الأحزاب الإسلامية لما تتوقعه من الاستحواذ على أكبرعدد من المقاعد، ومن ثَم، السيطرة على الحكومة. وواقع الأمر هوأن الأحزاب الإسلامية تهيمن بالفعل على معظم المقاعد داخل البرلمان الانتقالي التونسي، وذلك على غرارالوضع داخل البرلمان المصري الذي تَشكَّل بعد الثورة وأصبح الآن منحلاً. وتتفق الأحزاب العلمانية، وكذا الليبرالية، التونسية مع هذا التقييم، ويمكن القول إنها ابتعدت كل البعد، تقريباً، عن البرلمان. وأملها الآن يكمن في وجود نظام شبه رئاسي يأتي برئيس علماني أوليبرالي من شأنه أن يكون قوة موازية للبرلمان ورئيس الوزراء الذي يغلب عليهم الطابع الإسلامي. وتقوم هذه الاستراتيجية على أساسين: الأول، هوأن النظم الديمقراطية التي تنتهج النظام شبه الرئاسي تميل إلى الاعتماد على النموذج الفرنسي للانتخابات الرئاسية، أي إقامة جولة ثانية للتصويت بين المترشحَين الحاصلين على أعلى عدد من الأصوات في الجولة الأولى، وذلك في حالة عدم حصول أي من الأطراف على أغلبية مطلقة. والأغلبية المطلقة شرط للفوز بالانتخابات. ففي هذه الحالة، إذا لم يتمكن أي من المترشحين الإسلاميين من حصد أغلبية مطلقة من الأصوات في الجولة الأولى، فذلك من شأنه أن يحفزالمترشحين الرئاسيين لمناشدة الناخبين العلمانيين والليبراليين والفوزبأصواتهم. أما الأساس الثاني، فهوأن النظام شبه الرئاسي يقوم على الشخصية الكاريزمية التي ترتقي فوق السياسات الحزبية وتستطيع أن توحد البلاد، وذلك مثل شارل ديغول الذي ترأَس فرنسا في أعقاب الحرب. وفي حين تفتقرالأحزاب العلمانية والليبرالية إلى التنظيم الحزبي الذي من شأنه أن يمكنها من الهيمنة على البرلمان، تعتقد أن في مقدورها إثراء ساحة الترشح الرئاسي بشخصيات كاريزمية تتمتع بالقبول لدى قاعدة متسعة من الجمهور، وذلك مثل محمد البرادعي في مصر. وبإصرارها على انتهاج النظام شبه الرئاسي كوسيلة للتحوّط ضدّ الأغلبية الإسلامية، تُقحم القوى العلمانية الليبرالية نفسها هكذا في مغامرة ضخمة؛ فإذا خسرت الانتخابات الرئاسية، خسرت خسارة فادحة. وأكبردليل على سهولة حدوث ذلك هوانتخاب الرئيس محمد مرسي في مصر. وثمة مشاكل أخرى أيضاً في هذا الصدد. بغية أن تكون السلطة التنفيذية مقسمة بموجب النظام شبه الرئاسي، وجب أن ينص الدستور على منح رئيس الدولة صلاحيات كبيرة؛ إلا أن وجود رئيس ذي سلطات واسعة النطاق، بموجب الدستور، داخل أي نظام شبه رئاسي من شأنه أن تكون له عواقبه الوخيمة. إن الخبرة الدولية تبرهن على أن النظم شبه الرئاسية التي يترأسها رئيس ذو صلاحيات واسعة لهي أكثرعرضة للانهيارمن النظم التي يكون رئيسها مستضعفاً. كما أن التوترات التي تنشأ بين أي رئيس ذي صلاحيات وبين رئيس وزراء يدعمه البرلمان تعني أن من المؤكد أن الحكومة تمزقها الصراعات، وأنها غيرمستقرة، وأن التدابيرالتي تتخذها على صعيد الأداء الديمقراطي هي تدابيرغير فاعلة. ولكن، إذا كانت تونس – بل ومصر، وليبيا، وربما حتى سوريا– تريد أن تتجنب وجود سلطة تنفيذية يهيمن عليها حزب واحد، وفي الوقت نفسه، تريد أن تكون لديها حكومة تتسم بالاستقراروالديمقراطية والفعالية، فماذا بقيَ أمامها من خيارات؟ هل النظام شبه الرئاسي هو الخيارالوحيد أمامها؟ هناك خيارآخر. للنظم الديمقراطية البرلمانية أن تحمي الأحزاب العلمانية الليبرالية من خلال تطبيق مجموعة من الآليات المتنوعة. فيمكن لمحكمة دستورية، على شاكلة المحكمة الدستورية الألمانية، مع إجراءات تعيين تمنح صلاحيات لأحزاب سياسية صغيرة، أن تكون بمثابة رقيب على رئيس الوزراء، وكذا البرلمان. كما يمكن للدساتير أن تضمن للأحزاب الصغيرة أن يكون لها تمثيل داخل البرلمان، وذلك على غرارالوضع في حكومة ما بعد الفصل العنصري للوحدة الوطنية في جنوب إفريقيا، أوعلى غراراتفاق" بلفاست" في شمال" أيرلندا". وللأحزاب العلمانية الليبرالية أن ترهن موافقتها على الدستورالنهائي بوجود نظم انتخابية وقواعد للأحزاب السياسية تضمن حرية المنافسة الانتخابية ونزاهتها، وكذا بترسيخ الدستورلدعائم أساسية تضمن وجود تعدّدية حزبية على نحوديمقراطي. وقبل اعتماد الشكل النهائي للدستور، على الأحزاب العلمانية الليبرالية أن تصوغ قوانين وتشريعات من شأنها أن تحمي أجهزة المخابرات، والجهات المعنية بتنفيذ القانون من أي انتهاكات حزبية تُقترف على يد أغلبية سياسية. ويمكن للدساتيرأن تنص على تشكيل لجان برلمانية خاصة تُعنى بالإشراف على أجهزة الشرطة، وأجهزة المخابرات، والأموال العامة، وأن تكون أغلبية مقاعدها مخصصة لأحزاب المعارضة، وذلك بغية منع الاستغلال الحزبي للإنفاقات العامة، وأجهزة المخابرات، وقوات الشرطة. وأخيراً، يمكن للدستورأن ينص على تأسيس مؤسسات مستقلة تُعنى بالإشراف على الدولة، وذلك مثل المراقبين، والمدّعين العموميّين، واللجان الانتخابية، وأن تكون هذه المؤسسات مسؤولة مباشرة أمام البرلمان وترفع تقاريرها له، وأن يكون تعيين أطرافها وعزلهم بموافقة أحزاب الأقلية. إن وجود نظام برلماني يكفل الدستورحمايته ضد استبداد الحزب المهيمن لهو بديل أقل خطورة من وجود نظام شبه رئاسي. فهذه هي مصلحة التيارات الإسلامية التي ربما تجد نفسها يوماً ما جالسة في مقعد المعارضة. إن وجود نوع من الرقابة والتوازن تحت إطار برلماني لهو في صالح الجميع على المدى البعيد، لاسيما في صالح شعوب المنطقة العربية. *سوجيت تشودري، بروفيسور في القانون الدستوري في جامعة نيويورك *ريتشارد ستيسي، باحث بجامعة نيويورك