بقلم :محمد الحمّار *-بعد النكسة التي تسبب فيها طول الانتظار لتشكيل حكومة، وبعد أن عوضت "«الترويكا» نفسها في التشكيل النهائي (على إثرالنشرالأول للقائمة بتاريخ 2013-3-8)، يحقّ التساؤل: هل النهضة ستعوض نفسها هي الأخرى، كحزب يقود «الترويكا»، أم ستكون مجبرة على الامتثال للمنطق وذلك نزولا عند رغبة المجتمع بأسره وإذعانا للقوانين التي يسيربمقتضاها هذا المجتمع؟ ففي الوقت الذي كنا ننتظرفيه تشكيل حكومة تتمتع بقدرٍمهمّ من التمثيلية إزاء الشعب ونخبه بينما جاءتنا النتيجة معاكسة لكل طموح، اخترنا الانصياع لنداء واجبٍ أهم: استخلاص العبرة من التكرار والرتابة اللتين اتسمت بهما الطبقة السياسية أثناء مسعاها للخروج بحكومة مناسبة، من بين مآرب عديدة أخرى. في هذا السياق، إنّ أبرزما توصّلنا إليه من فهمٍ من خلال ما يجري بخصوص السياسة والسياسيين، والحاكم والمحكوم، والمعوقات أمام تشكيل الحكومات، هوأنّ المجتمع يسيء لنفسه، وأنّ أسوأ ما يفعله ، وما جنى عليه أحد، أفرادا وجماعات، حكومة وشعبا، هوأنه يتجنب أكثرما يمكن، وبقوة عجيبة، مجابهة التحدي الأكبرأمام العلة الأصلية التي ترتكزعليها معظم مشكلاته وتغتذي منها مختلف أصناف الطفيليات: تقريرمصيره حول منهاج السياسة المناسب له، إن الإسلام السياسي أوسياسة للمسلمين. والأرجح للاعتقاد أن يكون الخيارالأول، الإسلام السياسي والمتمثل في حزب حركة النهضة، الأداة الوحيدة التي في حوزتنا في الوقت الحاضر، والتي نفترض أنها ستمَكننا من استقصاء طرق التعافي من العلة. فالإسلام السياسي هو المتعارف وهوالظاهروالملموس بل والمعمول به في تونس وفي بلدان "الربيع العربي" في يومنا هذا، في السياسة عموما كما في أسفل وأعلى هرم السلطة (جل أعضاء الحكومة وأبرز كوادرالدولة ينحدرون من حزب حركة النهضة). لذا فالإسلام السياسي لا يمثل فقط واقعا وإنما أيضا منهاجا معيّنا موجودا فعليا، وفي وضع استخدام، مما يرشحه ليكون مقياسا للصواب والخطأ ومحرارا للنجاح والفشل في مجال الممارسة للسياسة وبالخصوص بالنظرإلى تحلي المنهاج بصفة العلمية من عدمه. أما الخيارالثاني، سياسة المسلمين، فيبقى مضمونُه في عداد الفرَضيات التي هي رهنٌ إما بالإثبات والتثبيت وإما بالانتقاد والدحض، لكن بدرجة عالية من النسبية، وذلك حسبما ستسفرعنه التجربة الإسلامية، إن كان مآلها على التوالي إمّا الفشل أم النجاح. فإن نجحت النهضة في تشكيل حكومة مرْضيّ عنها من طرف الشعب ونخبه ومكونات المجتمع كافة، تكون هي، وكذلك الجهات التي راهنت عليها وتعاونت معها وساعدتها على أن تحلّ محلّ حزب التجمع المنحلّ في المشهد السياسي التونسي وفي السلطة على الأخص، قد ربحت الرهان. حينئذ يقول قائل: ما المانع في أن يتفاعل المجتمع بأكثر جدوى وإيجابية ورحابة صدرمع حكومة قوامها الإسلام السياسي؟ لكن المشهد الحالي بعيد كلّ البعد عن رغبتنا في رؤية المجتمع يسلك سبيل المنطق. فلمّا نعلم أنّ ثمانية أشهرلم تكن كافية لإنجازتحوير وزاري ولا لتشكيل حكومة جديدة بتمامها وكمالها، ولمّا نعلم أنّ أبرز الفرقاء لحزب النهضة، وهم ذوي تمثيلية شعبية عالية (الاتحاد من أجل تونس؛ الجبهة الشعبية؛ التحالف الديمقراطي) لم يتوصلوا إلى وفاق يسهل لهم فرصة المشاركة في تمثيل الشعب في صلب حكومة ناجعة، أول ما يتبادرلذهننا كنتيجة حتمية لمساعي التغييرهوالفشل. والأسئلة التي تطرح نفسها في هذا المستوى: من هوالطرف المتسبب في الفشل، النهضة أم فرقاؤها أم المجتمع بأكمله؟ وهل أنّ سبب الفشل هو تشبث النهضة وشريكيها الاثنين (العائدَين) بالمحاصصة كمبدإ لتشكيل الحكومة، أم أنه تعنت المعارضة وإصرارها على وضع شروط مجحفة لتعجيزالنهضة وإضعاف قبضتها على الحكم، أم أنه كما قدمنا آنفا عجزالطبقة السياسية وسائرالنخب عن التحليل الصائب للواقع وعن التشخيص المناسب لمشكلاته وبالتالي تخلف المجتمع في مجال مجابهة التحديات الحقيقية التي تهدّده؟ في هذا المستوى لا يسعنا إلا أن نستند إلى إحدى قناعاتنا (المستقاة من قراءات وبحوث عديدة) ألا وهي اعتبارالإسلام السياسي ظاهرة أكثر منه حقيقة (أعمال عبد الباقي الهرماسي حول "الإسلام الاحتجاجي" وغيره من الباحثين)، ومؤشرا على الفشل أكثر منه أداة لتسوية وضعٍ مزدرٍ، وإنذارا بمشكلة أكثر منه حلا لها. وإذا أردنا تشبيه تنامي الإسلام السياسي بشيء ملموس فسنشبّهه بالنشازفي الأداء الموسيقي، وتَريًّا كان أوصوتيا. والسؤال سيكون عندئذ: هل يصح أن يكون النشازمدرجا في مناهج تعليم الموسيقى للمبتدئين؟ وفي حال يصحّ ذلك، هل يتوجّب تدريس النشازعلى أنه هو ما صحّ من اللحن ومن الصوت أم على أنه خطأ يخفي وراءه خللا في التكوين الموسيقي؟ طبعا لا يشك اثنان في لزوم اعتماد النشازلتعرية الأسباب الحقيقية ومنه تعليم الطلبة كيفية التعامل معها (تعديل الأوتار؛ اتباع قواعد النطق الصحيح والغناء السويّ). هكذا يشتغل الإسلام السياسي. أحببنا أم كرهنا، هونشازفي الأداء. وهونشازفي الأداء السياسي لا الديني، وإلا لمَا سُمّى إسلاما سياسيا (بل إسلاما بالتحديد) ولمَا طالب المنتمون إليه بتأسيس حزب (سياسي) لغرض ممارسته. والخلاصة أنّ الإسلام السياسي ظاهرة تصلح لتعليم السياسة وعلم السياسة، وذلك بأن يتمكن الطلبة (السياسيون والمثقفون) عبردراسة الظاهرة من معرفة أسبابها الحقيقية ثم الامتثال الصارم للقواعد الأساسية لممارسة السياسة كما ينبغي. هذا في حال تلاؤم الثقافة المحلية مع علم السياسة الكوني. أما في صورة غياب الانسجام، وهوأمرحاصل وثابت، فلا بد أن يكون الطلبة واعين بضرورة صياغة قواعد مستحدثة من شأنها أن تقلص من حدوث النشاز(الإسلامي السياسي) لا أن تفرض حدوثه بالقوة مثلما يجري الآن. فلا يجوزإذن أن يكون النشازهو محور الدرس وأداته وغايته مثلما نعاينه اليوم في المجتمع الإسلامي عموما وفي المجتمع التونسي على وجه الخصوص.