انهى كما هو معلوم المجلس الوطني التأسيسي خلال اليومين الماضيين كتابة النسخة الثالثة من مسودة الدستور وهي الآن منشورة على موقع واب المجلس ويتم تداولها في عدة صحف ومواقع اعلامية والكترونية.. ولعل المفيد التذكير ان الأمر يتعلق بمسودة، وأن الوقت ما يزال سانحا لتصويب خطإ، أو للتدقيق في بعض الفصول، أو الغاء بعضها الآخر ومراجعة أخرى.. من خلال الإشارة مباشرة الى موضع الخلل. صحيح أن القراءات للمسودة النهائية تختلف باختلاف المرجعيات الفكرية والسياسية والدينية.. لكنها قد تكون موضوعية ان كان نقدها صحيحا مبنيا على حجج واقعية ويهدف إلى تصحيح خطإ بيّن، او معنى غامض ومسقط.. او حق مغيّب او حرية مسلوبة ومقيّدة.. يتفق عدد من خبراء القانون وحتى من السياسيين أن المسودة النهائية هي أفضل من سابقاتها وتتضمن عدة مكاسب سواء في باب الحريات، او في باب الفصل بين السلطات.. لكن رغم ذلك نبه البعض الآخر الى عدد من الهنات وردت بالمسدوة منها ما هو قابل للتعديل بعد التوافق، وهنات أخرى قد يكون من الصعب محوها بسهولة أو التعديل فيها لارتباطها بقناعات سياسية، وهنا نقصد الباب المتعلق بالسلطة التنفيذية الذي يعطي صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة مقابل اضعاف واضح لصلاحيات رئيس الجمهورية.. رغم مراجعتها أكثر من مرة، ورغم تطعيمها بمقترحات كانت ثمرة جلسات حوار مع ممثلي المجتمع المدني بالجهات.. تضمنت مسودة الدستور عدة عبارات فضفاضة عامة، غامضة، ضبابية قابلة للتأويل وقد يكون بعضها محل سخرية وتندر.. لأنها لا يمكن ان تؤدي المعنى المراد تبليغه منها، فضلا عن كونها لا يمكن ان ترتقي الى نص قانوني فما بالك بالدستوري، ومثال على ذلك ما ورد بالفقرة الأولى بالفصل 12 "الشباب قوة فاعلة في بناء الوطن"، أو "الحق في الماء مضمون" في الفصل 39، او "الحق في الثقافة مضمون" في الفصل 41.. وقد عبر عدد من السياسيين ورجال القانون بخطورة العبارة التي وردت بالتوطئة المتعلقة ب"وتأسيسيا على ثوابت الإسلام ومقاصده".. إذ يرى البعض انها قد تكون مدخلا للاجتهاد والتأويل بما أنه لم يقع توضيح المقصد من ثوابت الاسلام وتحديدها بدقة... فصول أخرى وردت في باب الحقوق والحريات هي الآن محل تنازع وخلاف ومن المؤكد أنها ستكون محور نقاش معمّق وقد يكون لها تداعيات سلبية خطيرة إن لم يتم مراجعتها في أقرب وقت وخاصة الفصل 33 الذي يمس من حق الإضراب ويراه النقابيون وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل فصلا مكبلا لهذا الحق ومخالفا لمجلة الشغل والاتفاقيات الدولية والأممية، بما أنه يربط حق الإضراب بقانون. ورغم أن الفصل يعترف في فقرته الأولى بأن "الحق النقابي مضمون.. وحق الإضراب مضمون".. لكنه ربط حق الإضراب ب"قانون يضبط شروط ضمان سلامة المعدات والتجهيزات واستمرارية المرافق الضرورية لتلبية الحاجيات الماسة للمواطنين زمن الاضراب".. أيضا الفصل 34 الذي حد من حرية النفاذ الى المعلومة، وربط الحق بعبارات غامضة قابلة للتأويل والاجتهاد من شأنها ان تفرغ هذا الحق من محتواه. مثل المصلحة الوطنية والأمن الوطني. وجاءت صياغة الفصل كالتالي:" الحق في النفاذ الى المعلمومة مضمون ايضا.. في حدود عدم المساس بالأمن الوطني او المصحلة العامة او المعطيات الشخصية للغير.. لكن من يحدد معنى المصلحة الوطنية والأمن الوطني".. كما أن الفصل 42 غيّب عبارة "التمييز" ضد المرأة، ولم يتضمن ضمان الدولة القضاء على كل اشكال العنف والتمييز ضد المرأة.. اما الفصل 75 في باب السلطة التنفيذية فنص في فقرته الثانية على أن رئيس الجمهورية لا يسأل عن الأعمال التي قام بها في اطار ادائه لمهامه.. فلماذا يحاسب رئيس الجمهورية على افعاله ان كان ملاكا وخدوما للشعب والوطن والدولة ولم يتركب اي خطأ يدخل تحت خانة الفساد؟؟، ولماذا يستثنى رئيس الجمهورية من المساءلة، في حين لا نجد هذا الاستثناء لدى رئيس الحكومة؟. الم يعمد الرئيس المخلوع إلى اضافة هذه الفقرة في الدستور القديم، حتى يضمن لنفسه حصانة مزيفة؟؟ رئيس دون صلاحيات نأتي إلى الفصل76 الشهير الذي اعاد الى الأذهان ما ورد ضمن التنظيم المؤقت للسلط العمومية، إذ يكرس بامتياز النظام البرلماني ويجرد رئيس الجمهورية من عدة صلاحيات في ما عدا تعيين مفتي الجمهورية، تمثيل الدولة، رئاسة مجلس الأمن الوطني، واسناد الأوسمة، العفو الخاص، او المصادقة على المعاهدات.. أما كل الصلاحيات الأخرى المذكورة بنفس الفصل مشروطة باقتراح رئيس الحكومة وموافقة مجلس النواب على غرار تعيين محافظ البنك المركزي، وإعلان الحرب والسلم، وحالة الطوارئ، واجراء التعيينات والاعفاءات من الوظائف العسكرية العليا والمؤسسات العمومية الراجعة بالنظر الى وزارة الدفاع.. فضلا عن التعيينات والاعفاءات في الوظائف المدنية العليا وهذه مقترنة وجوبا باقتراح "مطابق" لرئيس الحكومة.. هذا الفصل حذر منه معظم النواب إلى حد ان احدهم وهو النائب اياد الدهماني احتج عليه بشدة وقال إن الفصل يكرس فعلا رئيس جمهورية تونس المستقبلي "طرطورا".. هذا الفصل سيكون عقبة كبيرة امام توافق المجلس التأسيسي على مجمل الدستور وقد يؤدي في صورة عدم تحويره واجراء توازن في صلاحيات راسي السلطة التنفيذية إلى اللجوء إلى الاستفتاء بما يعني ذلك من تمطيط لعمل المجلس وتأجيل الانتخابات التشريعية واطالة الفترة الانتقالية. اما في ما يتعلق بصلاحيات رئيس الحكومة فهي عديدة، لكن وجب التنبه إلى الفصل 89 في الفقرة الأخيرة، الذي ينص:" اذا تعذر على رئيس الحكومة ممارسة مهامه بصفة وقتية يفوض سلطاته الى احد الوزراء.." لكن في المقابل رئيس الجمهورية اذا تعذر عليه ممارسة مهامه بصفة وقتية يفوض سلطاته حسب الفصل 83 الى رئيس الحكومة؟... من بين الفصول الأخرى الغريبة والتي تحتاج إلى توضيح وتدقيق الفصل103 الذي"يحجر كل تدخل غير قانوني في سير القضاء" فهل يعني ان التدخل القانوني في سير القضاء جائزا.؟ مجلس أعلى للقضاء في باب السلطة القضائية، هناك عودة واضحة لتكريس المجلس الأعلى للقضاء في حلة جديدة نعم، لكنها لن ترضي العائلة القضائية الموسعة التي عبرت عن رفضها الصريح لمحتوى الفصول على غرار الفصل106 الذي يحيي المجلس الأعلى للقضاء، الذي يتكون من اربعة فروع العدلي والإداري والمالي وهيئة المجالس القضائية يتركب كل مجلس في نصفه من قضاة "اغلبهم منتخبون وقضاة معينون بالصفة وفي النصف المتبقي من غير القضاة.. أيضا الفصل 112 المتلعق المحكمة الدستورية الذي يكرس حسب اعتقادنا محاصصة حزبية، إذ يتكون من 12 عضوا مختصين في القانون مع خبرة 10 سنوات لكن طريقة اختيارهم قد تطرح اشكالا بما أن رئيس الجمهورية يرشح 8 ورئيس الحكومة 4، ورئيس مجلس الشعب 4، والمجلس الأعلى للقضاء 4 مرشحين.. هيئة اعلام تأتي اخيرا إلى باب الهيئات الدستورية إذ تؤكد المسودة في الفصل 119 على ان الهيئات الدستورية تتمتع بالشخصية القانونية والمالية والإدارية والخطير في الأمر انها "تنتخب من قبل مجلس الشعب.." وهذا ما سترفضه قطعا الهيئات المهنية الممثلة للقطاعات المعنية مثل قطاع الإعلام. فالفصل 121 مثلا يكرس هيئة اعلام جديدة بامتياز، لتعوض هيئة الإعلام السمعي البصري الحالية التي لم تر النور بعد، ويكرس لهيئة عامة شاملة للقطاع الإعلامي ككل بما فيها الصحافة المكتوبة والالكترونية.. الإعلاميون لن يقبلوا طبعا بهكذا هيئة وربما سيكون عليهم التضامن والتحرك لإلغاء هذا الفصل..