دام فيلم " البحث عن الشيخ محي الدين" ما يقارب ثلاث ساعات ولكن فضل هذه الساعات الثلاثة لمن استحملها إلى الآخر كبير جدا. فالفيلم غني بالصور والمعلومات الدقيقة والأهم من ذلك يستفز فيك الرغبة في العودة إلى الكتب والإبحار في النصوص وفي المخطوطات والغوص في عالم رجل استثنائي في تاريخ العرب والمسلمين. إنه الشيخ محي الدين ابن عربي الفيلسوف والصوفي والعالم الجليل الذي يعود له الفضل وإلى أيامنا هذه في تحسين صورة العرب والمسلمين. فكل من عرف الرجل في الغرب وفي مختلف أنحاء العالم إلا وقدر للمنطقة العربية والإسلامية أنها أنجبت رجلا من طينة محي الدين ابن عربي. الفيلم الذي عرض في سهرة الخميس بقاعة الحمراء بالزفير بالمرسى بدعوة من جمعية ابن رشد للديمقراطية والتقدم بطبيعة الحال للمخرج الناصر خمير ومن غيره يقدم على مثل هذه المغامرة أي فيلم وثائقي يوغل في عالم الفلسفة والوجود وتدور أحداثه كلها حول رحلة رجل (الناصر خمير) في العالم بحثا عن الشيخ محي الدين ابن عربي. الناصر خمير وحده يمكنه أن يقوم بمثل هذا العمل لأنه وهو المخرج سينمائي المبدع فنان تشكيلي يمارس الرسم والنحت وفن الخط وهو الكاتب وهو الرحالة بين الشرق والغرب بامتياز. الناصر خمير يفلت من كل التصنيفات. فهو يمارس الفن بفن كبير. هو بصيغة أخرى فيلسوف في عمله وهو إنسان يستطيع أن ينصت جيدا إلى موسيقى الذات البشرية لأنه في كل أعماله تقريبا يأخذ وقته كافيا. لا نشعر في أفلامه أنه معنيا بالضغط الزمني وهو في حد ذاته يبدو غالبا في حالة هدوء وينقل ذلك الإحساس بالهدوء إلى المشاهد. أغلب الحضور وكانوا بالأساس شخصيات من المجتمع المدني إلى جانب بعض الشخصيات السياسية ومحبي السينما عموما لم يسبق لهم أن شاهدوا الفيلم الذي عرض في الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية(2012). تولّى غازي الغرايري تقديم الفيلم وفكرة عن الجمعية التي ربما لا نحتاج للبحث كثيرا عن الخيط الرابط بين فيلم الناصر خمير الأخير وفلسفة جمعية ابن رشد للديمقراطية والتقدم فالفكر الحر والمستنير والإنفتاح على الآخر والتسامح قواسم مشتركة بين العالمين الجليلين ابن رشد وابن عربي. وتجدر الإشارة إلى أن الجمعية أنشات سنة 2012 وتم تقديم فيلم "البحث عن الشيخ محي الدين" في إطار أنشطتها الثقافية. رحلة في عالم رجل استثنائي في تاريخ العرب والمسلمين وإذا ما عدنا إلى الفيلم فإننا لا نستطيع أن لا نحيي الناصر خمير الذي يمنح الجمهور فرصة نادرة لاستثمار الوقت في عمل ممتع سينمائيا ومفيد جدا وهي فرصة نادرة بالنظر إلى الظروف التي نعيشها منذ فترة وتمنحنا الإحساس باننا نضيع الوقت في مشاحنات وفي نقاشات وفي تجاذبات متعبة ومرهقة والأهم من ذلك بلا جدوى بل عجفاء ومزعجة. الرحلة والشعور بأنك على موعد مع لحظات استثنائية تبدأ من جينيريك الفيلم. الأحرف والأسطر التي تعرف بالإنتاج السينمائي الجديد للمخرج الناصر خمير تكتب فوق صورة لمقبرة الزلاج بالعاصمة. القبور تشكل بلونها الأبيض مشهدا لا نقول رهيبا وإنما مؤثر جدا. ثم تتواصل الرحلة. الناصر خمير يجر دائما حقيبته الصغيرة حمراء اللون التي تؤكد أن الإنسان لا يحتاج لأكثر من حقيبة صغيرة ليجوب العالم بحثا عن الحقيقة. والحقيقة في الفيلم تأتي عبر فكر وفلسفة وحكمة الصوفي الجليل محي الدين ابن عربي. تدور أحداث الفيلم حول رجل يعود إلى البلد ليدفن والدته. الرجل ينطلق استجابة لوصية والده في رحلة على أعقاب الشيخ محي الدين ابن عربي. وكان الفيلسوف قد ولد بالأندلس سنة 1164 وتوفي بدمشق سنة 1240م. الرحلة تقود الرجل إلى بلدان وإلى أماكن غير عاديّة. أماكن في أغلبها دينيّة وعلمية تبعث الرهبة في النفس إجلالا للمكان وللشحنة الرمزية التي يحملها. طاف الناصر خمير بالجوامع وبالأضرحة وبمختلف الأماكن التي يمكن أن يزورها المريدون. رحلة جميلة قادها المخرج مكنتنا من أن نرافقه في ترحاله -بهدي من أستاذه- من أكسفورد إلى غرناطة ومن اشبيلية إلى فاس ومن مرسية إلى اسطمبول ومن قرطبة إلى كونيا ومن نيويورك إلى صنعاء ومن تونس إلى دمشق إلخ... أي ببساطنا قادنا إلى أجمل مدن العالم. رحلة من الشرق إلى الغرب وهو يضع بذلك يده على عمق فلسفة ابن عربي وجوهر فكره الذي يقوم على التسامح والإحترام احترام الآخر في اختلافه وفي عقائده لأن اسماء الله تختلف من دين إلى دين لكن الله واحد بالنسبة للجميع. ابن عربي ينادي بالمحبة الخالصة التي يبلغها البشر من خلال محبتهم لذات الخالق. وهو ما يجعله كتابا مفتوحا لكل من يعترضه أو يصادفه أو ينطلق في رحلة البحث عنه. رحلة صعبة قادنا إليها الناصر خمير لأنها تتطلب الإنتباه الكامل كما أن اللغات كانت عديدة من بينها الإسبانية والتركية والايطالية والإنقليزية وكان لابد من اتباع الترجمة. سار الرجل على أعقاب ابن عربي وفي كل مرة يعثر على من عرفه وأحبه من نساء ورجال من مختلف البلدان والأديان لكنهم يتفقون في اجلال الشيخ الأكبر. رحلة صعبة وشاقة لكنها جد ممتعة ليس بمفهومها الحسي فقط والصور كانت جميلة حقا وإنما للشعور بقيمة اللحظة وبعظمة الرسالة. فأي طريق آخر أكثر جاذبية واكثر إثارة للفضول وأكثر قدرة على ايقاظ الرغبة في المعرفة وفي فهم الوجود من طريق نسير فيها على أعقاب الشيخ الجليل محي الدين ابن عربي؟