عاجل/ قضية وديع الجرئ..تطورات جديدة وهذا ما تقرر في حقه..    إتفاقية تعاون بين وزارة التشغيل والتكوين المهني وبرامج ابتكار الأعمال النرويجي    الرائد الرسمي : اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية بنسبة 100 بالمائة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تواجه السلوفاكية آنا كارولينا شميدلوفا في الدور الثاني    القبض على مقترفي عملية سرقة مؤسسة سياحية بقليبية واسترجاع المسروق..    الإطاحة بثلاثة مروجي مخدرات أحدهم محل 12 منشور تفتيش وهذا ما تم حجزه..    الحماية المدنية: 21 حالة وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    المنستير : حريق بسيارة '' تاكسي فردي''    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    الليغ 2: علي العابدي يرفع عداده .. ويساهم في إنتصار فريقه    تونس تعمل على جمع شمل أمّ تونسية بطفلها الفلسطيني    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    لطفي الرياحي: "الحل الغاء شراء أضاحي العيد.."    أمطار غزيرة: 13 توصية لمستعملي الطريق    بطولة كرة السلة: برنامج مواجهات اليوم من الجولة الأخيرة لمرحلة البلاي أوف    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    يهم التونسيين : اليوم.. لحوم الأبقار الموردة موجودة في هذه الاماكن    عاجل : منع بث حلقة للحقائق الاربعة ''فيقوا يا أولياء    جندوبة : تطور أشغال جسر التواصل بين هذه الولايات    مبعوث ليبي ينقل رسالة خطية إلى الملك محمد السادس    حزب الله يعلن استهداف موقع إسرائيلي بعشرات الصواريخ..#خبر_عاجل    نموذج أوروبي: الأمطار متواصلة في تونس الى غاية الأسبوع القادم    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    بورصة تونس: بورصة تونس تبدأ الأسبوع على ارتفاع مؤشر «توننداكس»    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    رسالة من شقيقة زعيم كوريا الشمالية إلى العالم الغربي    لن تصدق.. تطبيق يحتوي غضب النساء!    الاقتصاد في العالم    القطاع الصناعي في تونس .. تحديات .. ورهانات    أريانة: إزالة 869 طنا من الفضلات وردم المستنقعات بروّاد    الطقس اليوم: أمطار رعديّة اليوم الأربعاء..    تنبيه: تسجيل اضطراب في توزيع مياه الشرب بعدد من مناطق هذه الولاية..    مشاركة تونس في اجتماعات صندوق النقد والبنك الدولي .. تأكيد دولي على دعم تونس في عديد المجالات    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    جربة: جمعية لينا بن مهني تطالب بفتح تحقيق في الحريق الذي نشب بحافلة المكتبة    رئيس مولدية بوسالم ل"وات": سندافع عن لقبنا الافريقي رغم صعوبة المهمة    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    ردا على الاشاعات : حمدي المدب يقود رحلة الترجي إلى جنوب إفريقيا    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يخشي أركون أن يكون مصيره التهميش والعزلة مثل ابن رشد؟!
نشر في الفجر نيوز يوم 25 - 03 - 2008

يعتبر أن الفلسفة العربية الإسلامية ماتت بموته عام 1198
إذا كان ابن رشد يمثل الحداثة الفكرية بالنسبة لعصره فإن أركون يمثل هذه الحداثة بالنسبة لوقتنا الراهن
هدف الاثنين واحد وهو: تحقيق المصالحة بين العقل والإيمان أو الفلسفة والدين
ابن رشد رغم عبقريته إلا أنه ينتمي إلي الفضاء العقلي للقرون الوسطي بينما أركون ينتمي إلي الفضاء العقلي للحداثة .. وشتان ما بين الفضائين
علي مسافة ثمانين عاماً أقام ابن رشد مناظرة فكرية عالية المستوي مع سلفه الكبير الغزالي الذي مات عام 1111
يري أركون أن ابن حزم الأندلسي 1064 فرض العقل من خلال المذهب الظاهري الذي أسسه ولم يدم طويلاً
بدءاً من القرن الخامس الهجري ومع وصول السلاجقة الأتراك للحكم أخذت الساحة الثقافية العربية الإسلامية تضيق وتتشنج
ينبغي علينا تأسيس علم جديد تحت عنوان سوسيولوجيا النجاح والفشل
المعايير التي استخدمها الغزالي للتفريق بين الإسلام والزندقة تظل ذاتية ومتحيزة لمذهب واحد وهي غير مقبولة من وجهة نظر الباحث الموضوعي
بقلم : هاشم صالح .. هل يتماهي اركون مع ابن رشد حتي درجة التطابق احيانا؟ هل يجد نفسه فيه يا تري؟ هل يخشي ان يحصل له ما حصل لسلفه الأكبر قبل ثمانية قرون من تهميش وعزلة؟ شخصيا أعتقد ذلك.
فكثيرا ما يذكره قائلا بان الفلسفة العربية الإسلامية ماتت بموته عام 1198 ولم تقم لها قائمة بعدئذ حتي أوائل القرن العشرين. وكثيرا ما يخشي ان يحصل لفكره ما حصل لابن رشد من نبذ ورفض في العالم العربي والإسلامي. وبالتالي فكلاهما تعرض لسوء الفهم والاضطهاد من قبل جماعته. واذا كان ابن رشد يمثل الحداثة الفكرية بالنسبة لعصره فان اركون يمثل هذه الحداثة بالنسبة لوقتنا الراهن مع فارق واحد: هو ان حداثة ذلك الزمن لم تعد هي ذاتها حداثتنا. فبين الرجلين تفصل مسافة ثمانية قرون حقق فيها الفكر البشري قفزات هائلة في كافة المجالات. في عصر ابن رشد كانت الحداثة تعني أساسا الفلسفة الارسطوطاليسية وتطبيقها علي التراث العربي الإسلامي. وفي عصر اركون، أي في عصرنا نحن، اصبحت تعني هضم العلوم الإنسانية والاجتماعية وتطبيقها علي نفس التراث. كما وتعني هضم كل الفلسفات التي جاءت بعد ارسطو ووسعت عقلانيته أو حتي انقلبت عليها كالفلسفة الديكارتية والكانطية والهيغلية والنيتشوية والهايدغرية وحتي فوكو وبول ريكور وهابرماس الخ.. ولكن في كلتا الحالتين كان الهدف واحدا: هو تحقيق المصالحة بين العقل والإيمان أو الفلسفة والدين. وفي كلتا الحالتين رفضت المحاولة من قبل جمهور المسلمين بل واتهم صاحبها بالهرطقة والخروج علي الدين. واذن فهناك أوجه تشابه بين الرجلين. بل وحتي في الأسلوب نلاحظ ان كليهما منطقي عقلاني الي أقصي الحدود. من المعلوم ان ابن رشد حاول التوفيق بين الإسلام والفلسفة من خلال كتابه الشهير: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. والمقصود بالحكمة هنا الفلسفة بطبيعة الحال. فهذا هو اسمها القديم عند العرب المسلمين. وكتب اركون كلها ليست إلا محاولة يائسة وشبه بطولية لتجديد فهم الإسلام لاضاءته من الداخل والخارج وجعله قادرا علي التصالح مع الحداثة والعصر. كلاهما يحاول ان يدخل المسلمين في الحداثة والعقلانية ويقنعهم بان الفلسفة ليست مضادة للدين اذا ما فهمناها علي حقيقتها واذا ما فهمنا الدين علي حقيقته ايضا. ولكن هنا تتوقف أوجه الشبه ويبزغ خلاف كبير بين الرجلين. فابن رشد كان يعيش في عصر لا يسمح بحرية التفكير إلا الي حد معين. وأما أركون فيعيش في العصور الحديثة ويدرس في كبريات الجامعات العالمية من أوروبية وأمريكية ويخالط اكثر الأوساط الفكرية طليعية في الغرب. وبالتالي فمنظوره للدين أوسع بالضرورة من منظور ابن رشد علي الرغم من أهمية هذا الأخير في عصره. فابن رشد ، علي الرغم من عبقريته، ينتمي الي الفضاء العقلي للقرون الوسطي، هذا في حين ان اركون ينتمي الي الفضاء العقلي للحداثة. وشتان ما بين الفضائين! هناك مسافات ضوئية بينهما.. فكل ما كان ممنوعا التفكير فيه في عصر ابن رشد، بل وكل ما لم يكن يخطر علي البال، اصبح مباحا ومشروعا في عصرنا الراهن.
لكن قبل ان يتحدث اركون عن هزيمة ابن رشد متحسرا نجده يقدم صورة عامة عن الساحة الفكرية العربية الإسلامية ويقول: لقد حصل انقسام في هذه الساحة بدءا من القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي بين العلوم الدينية أو النقلية والعلوم العقلية أو الدخيلة. ولم تنج الأولي كليا من بعض تأثيرات الثانية. ولكن حرية الحركة التي كانت تتمتع بها هذه الأخيرة حجمت من قبل الأولي حتي خنقتها في نهاية المطاف وقضت علي العقل والفلسفة كما سنري لاحقا. وهنا تكمن مأساة ابن رشد والمصير الأسود الذي لاقاه في الجهة الإسلامية.
لقد حصل الاختلاف بين الطرفين، أي بين أتباع العلوم الدينية/وأتباع العلوم العقلية حول المسألة الاساسية التالية: المكانة المعرفية للعقل ومدي استقلاليته بالقياس الي النقل. فالفقهاء عارضوا هذه الاستقلالية واعتبروها ابتعادا عن الدين أو حتي خروجا عليه. ثم ازداد هذا الانقسام حدة بعد حصول عملية الترجمات الكبري للفلسفة الاغريقية الي اللغة العربية. ومعلوم ان هذه الفلسفة جذبت اليها الكثيرين من مثقفي العرب والمسلمين حتي شكلت تيارا قويا في عهد المأمون بشكل خاص(813.833)، ثم في عهد البويهيين ابان القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. عندئذ بلغ الفكر العربي الإسلامي ذروته وشهد عصره الذهبي.
وهكذا، وعن طريق التوتر الحيوي والصراعي الخلاق بين أتباع العقل الديني وأتباع العقل الفلسفي، نتجت الأعمال الأدبية والفكرية الكبري للاسلام الكلاسيكي. واستمر هذا الابداع حتي موت ابن رشد عام 1198 بالنسبة للفلسفة وموت ابن خلدون بالنسبة لدراسة التاريخ والعمران والحضارات ونقد مختلف أنواع المعرفة عام 1406.
وعلي مسافة ثمانين عاما من الزمن أقام ابن رشد مناظرة فكرية عالية المستوي مع سلفه الكبير الغزالي الذي كان قد مات عام 1111. ومعلوم ان الغزالي كان مدافعا كبيرا عن العقل الديني ولكن المنفتح الي حد كبير علي المكتسبات الأكثر رسوخا للعقل الفلسفي. في تلك المرحلة من التاريخ شهد الفكر العربي الإسلامي ذروة نشاطه وابداعه. فيها ظهرت شخصيات كبري كالجاحظ الذي مات عام 869، وابي حيان التوحيدي 1023، والغزالي نفسه، وفخر الدين الرازي الذي مات عام 1209، وابن عقيل، وابن تيمية وآخرين عديدين..
ويري محمد اركون انه ينبغي ان نخصص هنا ذكرا خاصا لابن حزم الاندلسي 1064 الذي فرض العقل من خلال المذهب الظاهري الذي أسسه ولم يدم طويلا. ومجرد زوال مذهبه الفكري بسرعة يشكل اكبر دليل علي شراسة المعركة التي خاضها المدافعون عن العقل النقدي في الإسلام ضد التقليديين من أتباع العقل المقيد أو المستعبد من قبل الفقه والعلوم الدينية. وهم الأكثرية في الواقع. وهم الذين انتصروا في نهاية المطاف. وهم أسلاف بن لادن والظواهري والزرقاوي والقاعدة حاليا. وبانتصارهم قضي علي العقلانية الفلسفية في أرض الإسلام منذ ذلك الوقت وحتي يومنا هذا. لهذا السبب نقول بانه ينبغي تجديد مناهج التعليم في كل الدول العربية والإسلامية بل وقلبها رأسا علي عقب. وإلا فان العاقبة وخيمة ولن نخرج من المغطس الذي وقعنا فيه..
ثم يردف اركون قائلا: لقد لعب الفلاسفة العرب المسلمون دورا حاسما في بلورة الموقف العقلاني النقدي الحر الذي أدي لاحقا الي ظهور المثقف في أوروبا بالمعني الحديث للكلمة: أي المثقف الذي يتمتع باستقلالية الروح وحب الاستكشاف والفضول المعرفي وكذلك حب النقد والاحتجاج والمعارضة باسم العقل فقط. لقد نجحوا في بلاد الآخرين وفشلوا في أرضهم الخاصة بالذات. وهنا تكمن مأساة العالم الإسلامي المستمرة منذ ذلك الوقت وحتي يومنا هذا.
وبالإضافة الي الأسماء التي ذكرناها علي هذا النوع من المثقفين النقديين والعقلانيين ينبغي ان نشيد بكبار المعتزلة: كابن كلاب، والنظام، وبشر بن المعتمر، وعبد الجبار، وسواهم.. هذا دون ان ننسي الفلاسفة الكبار كالكندي والفارابي وابن عدي ومسكويه وابن سينا الخ..
مالذي حصل بعدئذ؟ ولماذا انقطعت كل تلك الحركة الفكرية والحضارية والتنويرية الرائعة؟ علي هذا السؤال يجيب صاحب نقد العقل الديني التقليدي في الإسلام قائلا: بدءا من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي أخذت الساحة الثقافية العربية الإسلامية تضيق وتتقلص وتتشنج وتنغلق علي ذاتها. وكان ذلك مع وصول السلاجقة الأتراك الي الحكم وتأسيس المدرسة بالمعني التقليدي السكولائي للكلمة ثم ترسيخ المذاهب الأربعة التي فرضت الارثوذكسية السكولائية للفكر الديني علي الجميع. وهذه الارثوذكسية الصارمة التكرارية والاجترارية هي التي سادت عصور الانحطاط وهي التي راحت تقضي تدريجيا علي العلوم العقلية باعتبار انها دخيلة أو أجنبية مشبوهة من قبل الإسلام الصحيح أو الارثوذكسي. وما حصل في جهة الإسلام السني من جمود وتقوقع حصل في جهة الإسلام الشيعي بعد ان استولي الصفويون علي ايران ورسخوا فيها الارثوذكسية الشيعية في مواجهة الارثوذكسية السنية. وهكذا انتهت الحيوية الابداعية للاسلام الكلاسيكي واصبحت نسيا منسيا..ودخلنا في عصر المذاهب والطوائف التي تخشي بعضها بعضا وتكفر بعضها بعضا. ولا يزال هذا الموقف سائدا حتي يومنا هذا حيث يرفض الاصوليون المعاصرون العلوم الحديثة للغرب بحجة محاربة الغزو الفكري الهدام. وأكبر دليل علي ذلك ما حصل لاركون شخصيا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. فعندما كان يذهب الي بلاده الاصلية الجزائر لحضور مؤتمرات الفكر الإسلامي ما كان يستطيع ان يلفظ اسم ابن رشد أمام الحاضرين من علماء الدين إلا بالكاد. كانوا فورا يصفعونه في وجهه قائلين: ومن هو ابن رشد هذا؟ انه زنديق منحرف خارج علي الإسلام! ونحن لا نعتد بأمثاله ولا نعترف. ثم يعلق اركون قائلا: نعم لقد سمعت بأذني هذه الادانات القاطعة لفيلسوف قرطبة الكبير من قبل أسياد الفكر الإسلامي المعاصر وأقطاب التيار الظلامي الذي ولد بعد عشر سنوات فقط الجبهة الإسلامية للانقاذ وكل الرعب والمجازر التي خلفتها وراءها.
مسكين ابن رشد: ليس له حظ في عالمه العربي الإسلامي. الفقهاء المالكيون يدينونه في عصره ويبصقون علي وجهه في المسجد الكبير أمام كل الناس، وفقهاء عصرنا يفعلون نفس الشيء وتمتقع وجوههم ما ان يذكر اسمه مجرد ذكر..وفي ذات الوقت يتلقف الغربيون كلامه ومؤلفاته ويترجمونها ويبنون عليها نهضتهم المقبلة. ثم يسألونك بعد كل ذلك: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
يقول اركون بما معناه: هذا الرجل العظيم الذي اضطهدوه في أواخر عمره وأهانوه لم يكن شخصا عاديا. وانما كان ينتمي الي عائلة عربية اسلامية عريقة في الاندلس. فجده كان قاضي قضاة مثله ولذلك يقال ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد. وبالتالي فلم يكن فيلسوفا فقط وانما عالما متبحرا في الدين ايضا. ولكنهم لم يغفروا له اهتمامه بالفكر الفلسفي والتعمق فيه. ومعلوم انهم كانوا ينظرون شزرا الي الفلسفة آنذاك ويعتبرونها من العلوم الدخيلة علي الإسلام تماما كما فعل فقهاء المشرق بعد ادانة الغزالي لها. وكان مجرد الاهتمام بها يعتبر سبة أو شتيمة الي درجة انه سادت في الكتب الصفراء الموروثة عن عصور الانحطاط العبارة التالية: كان يتفلسف لعنه الله..
ثم يردف صاحب نقد العقل الإسلامي قائلا: لقد همشت مؤلفات ابن رشد في العالم العربي والاسلامي كله نظرا للصراع المحتدم بين العقل الديني والعقل الفلسفي وانتصار الأول علي الثاني طيلة عصور الانحطاط السكولائية، أي التكرارية الاجترارية الفارغة من أي نبض أو ابداع. وسبب فشله لا يعود الي ضعف تفكيره وقوة تفكير خصومه وانما الي بعد سوسيولوجي لا حيلة له به وهو: ان البيئة الإسلامية في ذلك الوقت لم تكن محبذة للعلم والمعرفة العقلانية بعد ان افتقرت وغرقت في الدروشة والتصوف والفتاوي الفقهية الضيقة. ومعلوم ان العالم الإسلامي آنذاك كان قد ضعف كثيرا سياسيا واقتصاديا وتمزق الي دويلات عديدة متناحرة وفقد المبادرة التاريخية وقيادة العالم. لهذا السبب فشل فكر ابن رشد عندنا ونجح عند الأوروبيين حيث عبر المتوسط الي الضفة الأخري واصبح احدي المرجعيات الكبري في مختلف جامعات الغرب من السوربون الي اكسفورد الي بادوا في ايطاليا الخ..وتحول الي تيار فكري طويل عريض سيطر علي أوروبا طيلة اربعة أو خمسة قرون. وفي ذات الوقت كان جماعته يحرقون كتبه أو يطمسونها بأي شكل ويلعنونه ويتبرأون منه.
ويري اركون انه ينبغي علينا ان نؤسس علما جديدا تحت عنوان سوسيولوجيا النجاح والفشل. بمعني: لماذا ينجح فكر ما في بيئة معينة ويفشل فشلا ذريعا في بيئة اخري؟ لماذا بقي فكر ابن رشد ورقة ميتة في ارض الإسلام وتحول الي تيار طويل عريض في أوروبا؟
لقد اختفت مؤلفات ابن رشد من المكتبة العربية لقرون طويلة بل ولا تزال مختفية حتي الآن في الكثير من البلدان. ويمنع تدريسها ليس فقط في كليات الشريعة والمعاهد التقليدية وانما ايضا في العديد من المدارس والجامعات الحديثة. والسبب هو انعدام الفكر النقدي الحر في العالم العربي الإسلامي منذ موت ابن رشد وحتي اليوم. فأنت ينبغي ان تعد علي العشرة قبل ان تتجرأ وتفتح فمك وتقول شيئا له معني عن الدين والسياسة والتراث وسوي ذلك..فكيف يمكن للعالم العربي في مثل هذه الحالة ان ينهض ويتطور ويستدرك ما فات ويلحق بركب الأمم المتقدمة؟
في عام 2003 نال محمد اركون جائزة ابن رشد للفكر الحر في برلين.
وبهذه المناسبة أدلي الرجل ببعض المقابلات والتصريحات التي جاء فيها ما معناه: الشيء المسيطر علي عقلية العرب والمسلمين حاليا ليس فكر ابن رشد وانما فكر الغزالي. فحجة الإسلام في كتابه المعروف: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة أسس التكفير كمنهاج في التراث الإسلامي. وهومنهاج لايزال للاسف الشديد ساري المفعول حتي الآن. اذا ما لخصنا الأمور بسرعة شديدة قلنا بان الغزالي في هذا الكتاب كان يريد ان يقرر من هو المسلم الصحيح ومن هو المسلم المزيف. وقد اتبع محاجات لاهوتية معينة للتوصل الي غرضه هذا. ولذا راح يقول بما معناه: هذا مسلم حقيقي نعترف باسلامه وهذا غير مسلم خرج علي الدين الحق ودخل في الزندقة. ومنذ ذلك الوقت وحتي الآن لا تزال الحركات الأصولية تكفر المثقفين وتبيح دمهم. ولكن المعايير التي استخدمها الغزالي للتفريق بين الإسلام والزندقة تظل ذاتية ومتحيزة لمذهب واحد فقط أو لوجهة نظر واحدة مدعومة من قبل السلطة القائمة. وبالتالي فهي ليست مقبولة من وجهة نظر الباحث الموضوعي لان القرآن الكريم حمال أوجه ويحتمل عدة تأويلات وكذلك التراث الإسلامي ككل. والاختلاف في الدين والتفسير مشروع. ولا يحق لأحد ان يكفر أحدا لمجرد انه اختلف معه في بعض المسائل لان الله وحده هو الأعلم بما في ذات الصدور. ثم ان الغزالي علي عظمته كان موظفا في المدرسة النظامية عند نظام الملك والسلجوقيين المعروفين بتشددهم وانغلاقهم العقائدي.وانطلاقا من عهدهم أصلا ابتدأت عصور الانحطاط. لقد رسخ هذا المفكر العملاق الانغلاق اللاهوتي القروسطي الضيق القائم علي الفتاوي التي تطلق جزافا بحق وبدون حق. فالغزالي علي الرغم من عظمته الدينية والروحية الا انه أضعف الفلسفة والعلوم الطبيعية عن طريق تفنيده لمبدأ السببية الذي هو أصل كل عقلانية ثم عن طريق اغراقه في الصوفية والغيبيات. وكذلك عن طريق تغليبه الحدس علي العقل. وهذا النوع من التفكير التكفيري لا يزال مسيطرا علي عقليتنا حتي هذه اللحظة. فمؤخرا سمعنا بان الشيخ بن ناصر البراك كفر المثقفين السعوديين عبد الله بن بجاد العتيبي ويوسف ابو الخيل لمجرد تعبيرهما عن أفكارهما في جريدة الرياض والوطن علي ما أعتقد. وهي أفكار غير مخالفة لجوهر القرآن اذا ما فهمناه جيدا. فالقرآن الكريم لا يكفر أهل الكتاب علي عكس ما يقول الشيخ الجليل وانما يفرق بينهم وبين المشركين. وبالتالي فقد اصبحت الفتاوي التكفيرية سيفا مسلولا مسلطا علي رؤوس الناس لارعابهم وشلهم عن التفكير شللا.
اما ابن رشد الذي رد علي الغزالي بشكل غير مباشر في كتابه الشهير: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال فقد اتبع منهجا آخر في التفكير ومعالجة القضايا الحساسة من ايمانية وسواها. وعنوان الكتاب بحد ذاته يدل علي طريقة اخري مختلفة في التفكير. فابن رشد لم يكفر أحدا علي الرغم من انه كان قاضي قضاة ويحق له اطلاق الفتاوي مثل الغزالي واكثر. ولكنه اتبع المنهج العقلاني القائل بضرورة تفحص حجج كلا الطرفين: أي الطرف المتبع للشريعة والدين، والطرف المتبع للحكمة أو الفلسفة.وهنا يناقش ابن رشد المسألة مناقشة نقدية تساؤلية، لا قطعية ولا حاسمة سلفا. فهو لا يدين أحد الموقفين بشكل مسبق ونهائي وانما يعطيه حق الكلام. وهذا هو الموقف العقلاني الفلسفي البعيد عن المهاترات والادانات واللعنات اللاهوتية. وفي خاتمة المطاف يمكن القول بان الغزالي يضع حدا لحرية التفكير ويكفر في النهاية كل من يختلفون معه في الرأي. وهذا ما يفعله شيوخنا حاليا سواء في الجزائر أو السعودية أو مصر أو سواها.
أثناء الاحتفال بمنحه الجائزة تعرض الأستاذ الألماني ستيفان فيلد لنقطة هامة يلتقي عندها اركون بابن رشد: هي ان كليهما لا يخشي الفكر الوافد أو الأجنبي وانما ينفتح عليه كل الانفتاح ويأخذ منه ما يفيد قومه ودينه وأمته. وهو الفكر الذي حاول الغزالي محاربته في كتابه الشهير تهافت الفلاسفة حيث هاجم الفارابي وابن سينا وبقية الفلاسفة لانهم اتبعوا فلاسفة الاغريق كسقراط وبقراط وافلاطون وارسطو وأمثالهم..ومعلوم ان هؤلاء الفلاسفة كانوا يمثلون قمة الفكر البشري في وقتهم بل وكانوا بداية الفكر الأوروبي وقدوة لعصر النهضة والتنوير الكبير.
ابن رشد لم يستمع للغزالي ولم يأخذ بوصيته علي الرغم من احترامه الكبير له كما يفعل اركون.فهما يعرفان قيمته وأهميته في تاريخ الإسلام. ولكنه ليس معصوما.. وانما راح، أي ابن رشد، يدرس فلاسفة الاغريق من خلال الترجمات المتوافرة. ولم يتردد في الأخذ بآرائهم اذا كانت صحيحة. وربما لم يعرف شخص آنذاك ارسطو مثلما عرفه ابن رشد عندما تمثل أفكاره وهضم فلسفته. وما كان يشعر بانه يخسر هويته الاسلامية اذ ينفتح علي فكر ارسطو الذي عاش في وسط وثني كافر بحسب مقاييس المسلمين والمسيحيين في القرون الوسطي.
وهذا ما يفعله اركون مع الحداثة الأوروبية حاليا. فهو يأخذ منها أفضل ما أعطته ويطبقه علي تراثنا العربي الإسلامي لكي يضيئه من الداخل بشكل لم يسبق له مثيل من قبل. ولكن اركون يحذرنا من التوقف عند ما توصل اليه ابن رشد. فهذا خطأ كبير لان الرجل علي الرغم من عظمته وعبقريته يظل ابن عصره وزمانه. فهو مثلا لم يتجرأ علي كسر السياج الدوغمائي المغلق والخروج منه كما تخرج دودة القز من الشرنقة علي الرغم من جرأته وشجاعته. لماذا؟ لان هذا كان يشكل ما ندعوه حاليا بالمستحيل التفكير فيه في عصره. وحده اركون تجرأ علي ذلك في عصرنا الراهن. ولذا يمكن القول بانه ابن رشد العصور الحديثة لا القديمة.
ثم يطرح اركون في آخر تصريحاته في تونس هذا السؤال: ماذا حصل للعرب؟ ماذا حصل للغة العربية؟ لقد كانت لغة الحضارة والعقل والبحث العلمي والأنوار طيلة ستة قرون(632.1250)، أي منذ بدايات الإسلام وحتي سقوط بغداد علي أيدي المغول. ولكن بدءا من القرن الثالث عشر، أي بعد موت ابن رشد مباشرة، انغلق العرب المسلمون علي أنفسهم ودخلوا في قوقعة الماضي ونسوا العالم من حولهم حتي فاتهم ركب الحضارة بسنوات ضوئية. لقد سقطوا في أحضان الإسلام الحركي الايديولوجي الذي لا يطرح أي سؤال علي الواقع بل ويخشي طرح الاسئلة اكثر من الموت.
ان عظمة ابن رشد أو حتي حداثته تكمن في اطروحته الواردة في كتابه الشهير: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. ففيه يقول بما معناه: القرآن الكريم يتوجه بالخطاب الي جميع المسلمين سواء أكانوا ضعاف المستوي ثقافيا ام من أعلي المستويات(أي العامة والخاصة بحسب لغة ذلك الزمان أو أصحاب الأقاويل الخطابية والأقاويل البرهانية كما يقول ابن رشد). فالطابع الكوني للوحي لن يكون كونيا حقيقة الا اذا توجه بالخطاب الي جميع الناس أيا تكن مستوياتهم الفكرية. ثم يقول بان هناك المعني الأولي للنص القرآني أي المعني الظاهري البسيط والتشبيهي الموجه الي عامة الناس لكي يفهموه. وهناك المعني العميق الموجه الي الخاصة أو اصحاب البرهان من الفلاسفة. وأحيانا يحصل تناقض بين كلا المعنيين. وهنا بالضبط ينبغي علي الفيلسوف ان يتدخل لان الفيلسوف عن طريق القياس العقلي هو وحده القادر علي اكتشاف المعني العميق أو المجازي للنص والذي لا يتناقض مع المعني الظاهري. وعلي هذا النحو يحصل التوافق بين الشريعة والحكمة ولا يعود هناك أي تعارض لان النظر البرهاني أي الفلسفي العقلاني لا يؤدي الي مخالفة ما ورد به الشرع ولان الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له، كما يقول ابن رشد حرفيا.
وهنا يطلق فيلسوف قرطبة وقاضي القضاة فيها فتواه الشهيرة والرائعة بجواز الفلسفة شرعا بل وبكونها ملزمة للمسلم القادر علي فهمها. فهو يري ان عدم اضاءة نص الوحي عن طريق الحكمة أو الفلسفة البرهانية والعقلانية يسيء الي ايمان المؤمن أو ينقص منه. فالاسلام هو دين العقل والحكمة لا دين الجهالات والظلاميات.
انها أجمل فتوي وأعظم فتوي ظهرت في تاريخ الإسلام: الفلسفة حلال شرعا بل وواجبة حكما ولا مندوحة عنها. ولأن المسلمين خرجوا علي هذه الفتوي التي أطلقها فيلسوف قرطبة قبل ثمانمائة سنة ونيف فانهم تقلصوا فكريا وانحطوا ثقافيا وعقليا وأصبحوا كما مهملا..وعندئذ سبقتهم أمم أوروبا التي تلقفت فتوي ابن رشد في الوقت المناسب وأخذت بها قلبا وقالبا. وعلي هذا النحو انتشر المنهج العقلاني في بلدان المسيحية الأوروبية وسبقت عالم الإسلام بسنوات ضوئية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.