إذا قامت الثورة فعلا ضدّ الاستبداد واستحقاق التنمية وإنقاذ المناطق المحرومة فمن المفروض أن يكون التوجه الأوحد العناية بالاقتصاد لأن بناء الديمقراطية يمرّ حتما عبر نمو المؤسسات وتنشيط الحركة الاقتصادية وتحقيق نسب هامة من النمو حتى لا تكون ممارسة الديمقراطية والحرية اللتين أنعمت بهما الثورة ممارسة عرجاء. إذا تحدثنا بمنطق الثورة وأهدافها واستحقاقاتها كان من المفترض العمل على مجابهة البطالة وتحقيق استحقاق التشغيل وواقع التهميش، لكن ما حدث هو أن العجلة دارت في الاتجاه المعاكس اذ في مقابل غلق عديد المؤسسات نتيجة الانفلاتات الأمنية وانتشار مظاهر العنف وأيضا كثرة الاحتجاجات الاجتماعية، «انفلتت» الحكومات في منح تراخيص الأحزاب والمنظمات واللجان وغيرها، لكن من الثابت أن هذا السيل من الحريات لم يستفد منه لا الشعب ولا الاقتصاد بل رأينا في الجهة المقابلة تجاذبات سياسة منها ما ارتهن ملف رجال الأعمال. ومما زاد في سرعة اشغال فتيل التجاذبات السياسية والعقائدية والحزبية المنابر التلفزية والاذاعية والصحفية وغيرها من وسائل الاتصال التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام المواجهات الساخنة، حتى تحوّل النقاش ومقارعة الحجة بالحجة في بعض الأحيان إلى عمليات تصفية حسابات بلغت حدّ الاغتيال ومظاهر العنف بمختلف أشكاله، الذي كانت نتيجته ثقيلة على كل البلاد، فبالاضافة إلى أننا سوقنا صورة قاتمة عن البلاد فقد انهار القطاع السياحي وتعطل الاستثمار.. ولم نجن من «الاستثمار السياسوي» في بعض المناسبات إلا الخراب.. ولا شك أن المنابر التي اختصت في السياسة والتجاذبات لم تزد بعض الوجوه التي تظهر إلا حدّة للاحتقان والاختلاف، ولم نر السياسيين يعالجون مشاكل التهريب والتجارة الموازية والانفلات التجاري الفوضوي الذي أغرق القطاع المنظم في الديون حتى أصبح مهددا بالإفلاس في عدة مجالات.. بل أيضا حتى اجتماعات منظمات المجتمع المدني والهيئات وغيرها لم يكن في اهتماماتها الجانب الاقتصادي، فلا يعتبر الحديث عن غلاء الأسعار والاحتكار وتحميل الحكومة مسؤولية ذلك مساهمة في إنقاذ الاقتصاد أو تقديما لحلول تنموية أو مقترحات للخروج من عنق الزجاجة بقدر ما يعتبر في بعض المواقع محاولة لمزيد سكب البنزين على النار.. ورغم أن لا أحد ينكر أن الحكومة انهمكت في التسميات والتعيينات وبأسلاك العمد والمعتمدين والولاة.. وما يتعلق بجماعة العفو التشريعي وترقياتهم.. والتعلل بقلة موارد الدولة في ما يخص المفاوضات الاجتماعية، فإن ما يحسب لها أنها لا تنقطع عن محاولة ضمان استقرار الأمن ومحاصرة الجريمة، لكن بأي شكل وبأي أسلوب؟ تلك هي المشكلة.. وهل وفرت الضمانات لعودة عجلة الاقتصاد للدوران؟ تلك هي الإشكالية.. ويكفي القول إنه حتى في هذا الاتجاه قد فوّتت على نفسها فرصة استقطاب رجال الأعمال، حتى أنها لم تتخذ إجراء واحدا جريئا بخصوص الملف الضخم المسمى المحاسبة والمصالحة مع أصحاب أدوات الإنتاج...