نتجاهل كفاءاتنا ونبحث عن شركات أجنبية بالعملة الصعبة؟ حوار: نزيهة الغضباني عبر الموسيقي لسعد قريعة مدير مركز الموسيقى العربية والمتوسطية النجمة الزهراء بسيدي بوسعيد عن استيائه الشديد من ظروف العمل ومن العراقيل التي واجهها في المركز أو ما سماه "بالبيروقراطية" القاتلة التي تكاد تحول دون تنفيذ مشروعه الفنّي في هذا الفضاء خاصة في ما يتعلّق ببرنامج خاص بالتسجيلات والأرشيف الموسيقي بالمركز خاصة أن هذا الهيكل يضمّ أيضا الخزينة الوطنية للتسجيلات الصوتيّة بمختلف أصنافها ليتم رقمنتها وتوزيع التراث الموسيقي.. كان ذلك في حديث شامل تعرض فيه الموسيقي لسعد قريعة إلى موقفه من قرار وزارة الثقافة بإيقاف مشروعه المتعلق بصيانة التسجيلات الموسيقية والقرار الوزاري البديل الذي سيكلف الدولة مصاريف طائلة بالعملة الصعبة حسب تأكيده وهو يرى أن هذا القرار لا يتضمن حماية للمادة الفريدة والنوعية جدا. وفي ما يلي نص الحديث الذي اهتم بمسائل أخرى ذات صلة بالموسيقى والثقافة في تونس عموما. - أصدر مركز الموسيقى العربية والمتوسطية النجمة الزهراء تعبيرة موسيقية من التراث التونسي تعرف ب"العادة الشاذلية ماذا يمكن أن يضيف ذلك للمدونة الموسيقية في تونس؟ يسعد المركز اليوم، بكل من فيه، أن ينشر النموذج الأول من هذا الرصيد في سياق سلسلة إصدارات متتالية وتتمثل الوثيقة التي نحن بصددها في مخطوط يخصّ إحدى تعبيرات الموروث الموسيقي الصوفي بتونس وتعرف ب"العادة الشاذلية وقد كلفت سليم البكوش صاحب فرقة مشكاة بإنجاز العمل وغناء "النوتة" في العرض الذي قدم في غرة الشهر الجاري بالمركز. فضلا عن إصداره في قرص ليزري في انتظار صدور الكتاب باعتبار أننا وجدنا صعوبات في هذا الجانب. والهام في هذا الكتاب أنه يتضمن نسخة مصورة من المخطوط وأيضا دراسة باللغة العربية على الطريقة الشاذلية للباحث هشام بن عمر وأخرى بالفرنسية للمنوبي السنوسي. لأننا في المركز عاقدون العزم على المضيّ في هذا الخيار حتى نحفظ مادة نوعية وتاريخية ثرية من ناحية ولتكون على ذمة الباحثين والدارسين بطريقة تحفظها من الاتلاف والضياع إذا ما بقيت حبيسة الرفوف من ناحية ثانية. لأن مركز الموسيقى العربية والمتوسطية النجمة الزهراء بسيدي بوسعيد يحتفظ بمادة أرشيفية موسيقية قيّمة تتعلق بالموروث الموسيقي العربي عامة والتونسي خاصة بمختلف تعبيراته وأنماطه يتوزع بين تقليدي كلاسيكي وطرقي وشعبي وغيرها من الأنماط الأخرى. لذلك فإن برنامج عملنا سيكون عمليا أكثر من أيّ وقت مضى. - كيف تم تنفيذ مثل هذه المشاريع نظرا لما تتميز به من دقة وخصوصية في ظل محدودية الزاد البشري بالمركز؟ الجميع مقتنع بأهمية المادة الموسيقية بالمركز. مما يعني أن تناولها بأيّ شكل من الأشكال يتوجب شروط الاختصاص والاتقان من أجل آداء هذه المهمة بطريقة ناجعة. لذلك حرص المركز على اسناد هذه المهمة إلى عدد من الباحثين الأكاديميين المختصين في الموسيقى وعلومها ولهم من الخبرة والكفاءة ما يؤهلهم لآداء هذه المهمة بنجاعة. وتم التعاقد مع عدد منهم لأداء هذه المهمة التي انطلقت بداية من شهر سبتمبر الماضي وتواصلت إلى حدود شهر فيفري الماضي أين توقفت العملية بقرار من وزير الثقافة. وكان من المؤمل أن يفضي مشروع الرقمنة والتوصيف الذي شمل إلى حد الآن 80 علبة أرشيف من مجموع حوالي165 تُشكِّل كاملَ الرصيد، إلى وضع جملة هذه الوثائق على ذمة الباحثين لتقديم مقاربات معرفية جديدة حول المشهد الموسيقي في تونس إبان تلك الحقبة الزمنية. هذا بالإضافة إلى مواصلة حفظ وصيانة كامل الرصيد الورقي المحفوظ في قصر النجمة الزهراء جردًا وتوصيفا ورقمنةً خلال السنة المنقضية. - أكدت أن وزارة الثقافة أوقفت المشروع لماذا حسب رأيك؟ أعترف أن إيقاف سير العمل في هذا المجال كان بسبب اشكالات إدارية. وذلك بعد أن تم إعلامي أن وزارة الثقافة تريد إجراء صفقة في الغرض. ولما أعلمت الجهات الرسمية أن تونس ليس بها شركات مختصة في المجال وما قمت به أنا كان عمليا وناجعا والمتمثل في التعاقد مع كفاءات مختصة في جميع المجالات الموسيقية ولها من الخبرة والكفاءة ما يؤهلها لتقوم بهذه المهمة على أكمل وجه وبأقل التكاليف. إلا أن موقف وزارة الثقافة كان مخالفا لهذا الرأي. إذ تم اعلامي ان الوزارة تفكر في منح هذه المهمة لشركة دولية. -هل الإجراءات الإدارية هي التي كانت وراء تعطيل المشروع أم أنّ هناك أمورا أخرى؟ أستغرب إن كان ما قمت به يعد في خانة الاجتهاد أو مخالفا للقانون ولكني مدير هذا المركز وكنت شديد الحرص على أن أكون عمليا وأربح الوقت والمجهود في إنجاز مشاريع وبرامج قديمة كانت معلقة وذلك بأقل التكاليف الممكنة. لكن يبدو أن لسلطة الإشراف رأيا آخر لأن في تسليم هذا المشروع إلى شركة دولية مخاطر عديدة منها إخراج هذا الكم الهائل من الرصيد الوطني إلى الخارج دون ضمان المحافظة عليه رغم ما يحتويه من مادة فريدة من نوعها ولا يجوز التفريط فيها بسهولة، من ناحية وعرضه أمام جهات أجنبية. ثم أن هذه الصفقة الدولية سوف تكلف الدولة مبالغ طائلة وبالعملة الصعبة تتجاوز المليار والنصف. - تحدثت سابقا عن وجود عديد المسائل العالقة في المركز فماذا تعني بذلك؟ منذ دخولي المركز وجهت اهتماما كبيرا للجانب الأكاديمي خاصة لأني وجدت أن هذا الجانب لم يحظ بالاهتمام اللازم مثلما هو الشأن بالنسبة للحفلات والعروض نظرا لأن هذا الجانب الوحيد الذي وجد حظه. ثم أن مسألة أخرى على غاية من الأهمية في المركز وفي حاجة إلى عناية وتتعلق بالتجهيزات والأثاث الموجود والذي أصبح مهددا بالإتلاف ونحن بصدد دراسة وبحث تجديده وهذه المسألة ليست بالهينة. لأننا مطالبون بالمحافظة على نوعية القماش والمادة واللون مثلا. وهي عملية مكلفة كثيرا. - تحدثت أيضا عن"نوبة الصيكه" فهل سيشهد نفس التمشي في"الشاذلية"؟ أصدرنا "نوبة الصيكه" في قرص ليزري يجسد مساهمة مركز الموسيقى العربية والمتوسطية في إثراء رصيد التسجيلات الموسيقية المتعلقة بالموروث الموسيقي التقليدي التونسي ومن بينه "المالوف" والتي ظلت إلى يومنا هذا محدودة العدد ومنقوصة من ذلك أن بلادنا ما تزال تفتقر إلى أنطولوجيا متكاملة للمالوف التونسي، ناهيك أن سلسلة التسجيلات التي أصدرتها وزارة الثقافة التونسية بالتعاون مع دار ثقافات العالم بباريس في بداية التسعينات من القرن الماضي، في شكل أقراص ليزرية تحت عنوان"منتخبات المالوف التونسية" لم تتجاوز الخمسة إصدارات وهي: نوبات الذيل والرمل والأصبهان والعراق. وقد اعتمدت هذه الإصدارات على تسجيلات تاريخية لفرقة الإذاعة التونسية. وتلاها إصدار نوبة الصيكه استند إلى تسجيل أنجزته مجموعة موسيقية بقيادة الفنان فتحي زغندة. ثم وفي سنة 1999 أصدر مركز الموسيقى العربية والمتوسطية قرصا يتضمن تسجيلا لنوبة الحسين من أداء فرقة المعهد الرشيدي. -هل تعني بذلك أن عملية تدوين المالوف التونسي كانت قبل تأسيس الرشيدية؟ فعلا فقد كانت هناك محاولات عديدة لتدوين المالوف التونسي قبل الرشيدية. ولئن تعلق هذا الإصدار الجديد بنوبة سبق أن صدرت ضمن السلسلة المذكورة، فإنه يتميز عن سابقه بكونه يستند إلى مدونة موسيقية ل"نوبة الصيكه" في رواية غير متداولة وغير مسموعة للشيخ خميس الترنان (1894- 1964) وبخط الشيخ علي الدرويش الحلبي (1884-1952). وهذا الأخير هو أستاذ محمد عبد الوهاب وسبق له أن تعامل مطولا مع البارون ديرلنجي. كما يعود له الفضل في دخول آلة الناي إلى تونس. ويعود تاريخ الفراغ من تدوين هذه النوبة إلى يوم 10 ديسمبر1932، أي سنتين قبل تأسيس الرشيدية. وتوجد هذه المدونة ضمن أرشيف البارون ديرلنجي المحفوظ بقصر النجمة الزهراء. والمؤمل أن يسهم هذا الإصدار في الكشف عن خصوصيات فنية ومعرفية جديدة حول المالوف التونسي، تكون حافزا للجيل الجديد من المولعين بالموسيقى وأسرارها نحو مزيد الاهتمام بموسيقانا التقليدية التي هي جزء لا يتجزأ من هويتنا الثقافية. -ما هي آخر انتاجاتك الخاصة؟ أنا خيرت الابتعاد عن الانتاجات الخاصة حتى أكون متفرغا لمهمتي على رأس المركز والتي أعتبرها صعبة ومسؤولية كبيرة. فأنا بصدد ترجمة الجزء الخامس من كتاب الموسيقى العربية للبارون ديرلنجي ولكني لم أجد الوقت الكافي لإتمام هذا العمل.