العالم يتكلم لغة مانديلا وأنظاره تتطلع إلى بريتوريا لمعرفة أخبار أول رئيس أسود لجنوب افريقيا في صراعه مع الحياة، لأن من كان بحجم مانديلا ونضالاته وتضحياته لا يموت ولا يُمحى من ذاكرة شعبه ولا يسقط من الذاكرة الإنسانية.. صلوات تقام في مختلف أنحاء العالم إجلالا وإكبارا لرجل أحب شعبه وعشق وطنه فتحول الى أسطورة تتناقلها الأجيال.. مانديلا اليوم موضوع الخاصة والعامة، وهو على فراش المرض وقد تقدم به السن، لا يكاد يمر يوم دون أن تتصدر أخباره وصوره صفحات كبرى الصحف الامريكية. عشاقه سواء من عرفوه عن قرب وعايشوا تجربته النضالية ومسيرته الطويلة في مكافحة العنصرية وتحقيق المساواة والعدالة لأبناء شعبه، أو أولئك الذين تابعوا ملحمته التاريخية، يدركون اليوم قيمة ومكانة الرجل الذي سجل التاريخ اسمه بحروف لن تمحى وهي حروف أشد لمعانا من الذهب وأرفع شأنا من كل الكلمات والحروف الزائفة.. أسطورة كان مانديلا.. وأسطورة سيبقى، وهو الذي ترفع عن كل الحسابات الشخصية الضيقة ولم يجعل من سنوات سجنه الطويلة في سجون "الأبرتهايد" موضوعا للمقايضات والمزايدات الرخيصة، بل لأكثر من ذلك، فقد اشترك في الحكم مع من كانوا بالأمس القريب جلاديه، وقدم للعالم أفضل الدروس في مفهوم القيم الإنسانية والحكمة التي دفعت بلاده ذات العرقيات المتعددة إلى طريق المصالحة والمحاسبة.. طريق لم يكن ممهدا، وربما لم يكتمل بعد، ولكنه منح مانديلا بعد أن استعاد حريته مكانة زعيم ورمز لا يدركه الكثيرون... مانديلا أو "ماديبا" -أب الأمة كما يسميه شعبه- صاحب جائزة نوبل، ورجل حمل من الألقاب وحصد من الجوائز ما جعله يتفرد على الكثير من الزعامات التي لم تعرف من الزعامة غير الإسم، استحق أن يكون له ذلك الموقع في كل القلوب والنفوس وهو الذي جاء الى السلطة في بلد طالما خضع لسلطة البيض، في أعقاب 27 عاما من السجن الانفرادي، ولم يسع بعد إطلاق سراحه لأن يلعب دور الضحية أو يجعل من سنوات سجنه موضوعا للانتقام والتشفي من جلاديه، أو ورقة للابتزاز والفوز بالتعويضات على حساب شعبه. تحمل مانديلا السلطة فكان على درجة من المسؤولية وصدق النوايا. كان بإمكانه بعد أن وصل الى كرسي الحكم ألا يفارقه حتى آخر رمق، ولكنه آثر غير ذلك، وقلة من زعماء العالم تملك تلك الدرجة من الترفع. مانديلا اليوم حديث العامة والخاصة في كل العالم وليس في أمريكا فقط من يقيم له الصلوات، فالرجل اليوم يكاد يكون رمزا لكل الشعوب بمختلف انتماءاتها وحضاراتها.. وفي روما أطلق على إحدى البلدات الصغيرة اسم مانديلا وحمل أحد جسور هولندا اسمه ومنحت كينشاسا دورها اسم الزعيم مانديلا على احدى ساحاتها. هذا الاهتمام العالمي ليس لأن مانديلا لا بلد أو لا شعب له يحيي ذاكرته ويحفظها، فكل جنوب افريقيا اليوم بمختلف عرقياتها وأقلياتها تحبس أنفاسها لأجله، ولكن لأن الرجل نجح في الاختبار الذي سقط فيه أغلبية الحكام الذين أغرتهم السلطة، ولم ينجرف إلى إغراءات الحكم ولعنة الكرسي الذي جعل من كانوا يحسبون أنفسهم من المناضلين الابطال جلادين جددا. ربما لهذه الأسباب ولغيرها يسعى كبار قادة العالم للوقوف بين يدي مانديلا في هذه اللحظات وعلى مآثره وهم يدركون جيدا أنه ليس من يحتاج لهم في هذه المرحلة بل هم الذين يحتاجون لمانديلا الشيخ ليستعيدوا معه صورة تراجعت لدى الرأي العام ومكانة تدهورت. أحد هؤلاء الرئيس الأمريكي باراك أوباما أول رئيس أسود لأمريكا خلال جولته هذا الأسبوع في افريقيا، وهو الذي كان يمني النفس بالظهور إلى جانب أول رئيس أسود لجنوب افريقيا لفرض مقارنة قد لا تجوز بين زعيم صنع مجده ومجد شعبه، ورئيس شاب طموح يحلم أن يذكره التاريخ إلى جانب زعيم في حجم مانديلا... طبعا، ليس بإمكان الحكام الجدد في دول الربيع العربي أن يتوقفوا عند ملحمة مانديلا أو يقرأوا مسيرته أو يتعلموا من تضحياته وما تحقق بفضله من مصالحة وطنية وتقدم في المسيرة الديموقراطية، فمعاني الترفع عن الابتذال والتواضع أمام الشعوب لا تزال غائبة من قاموسهم السياسي، ونموذج مانديلا، وإن حرصوا على التشبه والاستشهاد به، ليس بقريب من عقلية الحاكم العربي حتى وان بلغ السلطة في أعقاب ثورة شعبية اهتز لها العالم... مانديلا وأمثاله لا يموتون ولا يمكن للذاكرة الإنسانية أن تسقطهم حتى وإن كانت لهم أخطاؤهم وعثراتهم، أما غيرهم من الحكام فقد أسقطتهم الذاكرة وسيلفظهم التاريخ حتى وإن كانوا أحياء... مانديلا أحب شعبه فأحبه الشعب وأخلص له... هكذا هم العظماء ومانديلا أحد هؤلاء الذين سيسجل التاريخ أسماءهم، ويكفيه فخرا أنه لم يجعل من سنوات سجنه وتضحياته الجسام سببا للتمسك بالسلطة والتفرد بها هو وعائلته وأصهاره. كان مانديلا – وسيبقى- من طينة فئة من العظماء الذين لا يجود بهم التاريخ إلا لماما... ومن كان يرى في نفسه من زعماء اليوم أنه وريث مانديلا فهو واهم، فأسطورة مانديلا غير قابلة للتكرار مع من جعلوا من النضال والتضحية طريقا للتسلط والابتزاز والبحث عن تعويضات لا تنتهي، من أجل أهداف أبعد من أن تكون أهداف وطنية...