بقلم: علي بوراوي* سألني: هل الذي حصل عندكم في تونس ثورة، أم انقلاب؟ لم أكد أصدّق ما سمعت منه، وأحسست أنّه يريد استفزازي وإثارتي. لم يكن محدّثي ممن يشمتون بالثّورات، ولا هو ممن لا يعرفون تونس والتونسيين، وما فعله فيهما بن علي طيلة 23 عاما. لكنّه أصرّ على طرح سؤاله، رغم ما لاح منّي من ضيق بطرحه، وتجهّم من سؤاله. كان هذا بعد نحو ثلاثة أشهر من الثّورة، عندما هتف إليّ صديقي السوري يخبرني بوجوده في باريس، ورغبته في اللقاء. فقد عانت أسرته من نظام الأسد، أكثر ممّا عاناه التونسيون من النظام النوفمبري. بل إنّ صداقتنا كانت بسبب اشتراكنا في نفس المعاناة السياسية تقريبا. وهذا ما زاد في استغرابي من سؤاله. وأدركت أنّ الرّجل جادّ في طرحه، متخوّف من تفاؤلي المفرط بالثّورة كغيري من التونسيين، من أن نحبط بعد وقت قصير، والظرف يفرض علينا فهما جيدا لما يجري، ورؤية واضحة وواقعية للمستقبل. تحدّث صاحبي يومها عن الوضع الدولي والقوى المتحكّمة فيه، وأنّها لا تقبل بالتغيير إلاّ بدرجة محدودة، ولا تسمح بولادة قوى جديدة تطعن في الشرعيات القائمة، وتشكّك في منظومة القيم السائدة. وأنّها استعملت وكلاءها المحلّيين للتعجيل برحيل الدكتاتور، ووضع حدّ لانهيار النّظام الذي صنعته ووكّلته أمر البلاد. لم نتّفق في فهم ما حصل في بلادنا. فقد أكّدت له أنّها ثورة، وأنّها لم تعط ما عندها بعد، وأنّ التونسيين لا يمكن أن يقبلوا بالوقوف في منتصف الطريق، والإكتفاء بتغيير رأس السلطة. فقد أخذوا الدّرس مما عانوه من النظام البائد، وواعون بما يجب اتخاذه حتّي لا يعود الإستبداد من جديد. أمّا صديقي، فقد أوضح لي أنّ رعب بن علي ممّا حصل، وعدم ثقته في المحيطين به، دفعه إلى الفرار دفعا، وأنّ المؤسسة العسكرية تولّت إخراجه من البلاد، وتكفّلت مع شركائها بتدبير الأمور بعد ذلك. وقال لي في نهاية حديثنا في الموضوع: قد يزعجك كلامي، ولكن هذا هو رأيي، وأتمنّي أن أكون مخطئا، وسيكشف المستقبل القريب حقيقة ما حصل عندكم أهو ثورة، أم انقلاب مهذّب. كان هذا قبل عامين. ورغم أنّي رأيت أنّ صديقي مخطئ فيما ذهب إليه، إلاّ أنّ كلامه ذاك، ظل يطاردني كالحلم المزعج. كنت ومازلت مقتنعا أنّ في تونس ثورة، وأنّها ستحقّق أهدافها، مهما اعترضها من أشواك وعراقيل وخيانات. سندي في ذلك هو نبض الشّارع وصدق المواطن. فالجميع مازال يستحضر ما فعله نظام بن علي، وما جرّه وأسّس له من فساد أهلك الحرث والنّسل، وقاد البلاد إلى الهاوية. ولئن كان من الصّعب الرهان على تيار أو تحالف، فضلا عن حزب محدّد، ليقود حراك الثورة ويؤسّس لدولة ديمقراطية تحقّق العدل وتحترم الحرية، فإنّ هاجس الخوف من السلطة السياسية، أّيّا كانت هذه السلطة، قد مات فعلا في أنفس التونسيين، وأصبح الجميع يعبّر عن رأيه بحرية. هذه الحرية التي انتزعها التونسيون انتزاعا، بعد أن دفعوا ثمنها غاليا، هي التي تضمن استمرار الثورة، وصعوبة الإرتداد عن أهدافها، مهما كان حجم وقدرات قوى الردّة. هذا المعنى، ثابت في القاعدة الشعبية ولا يمكن أن يهتزّ، ولكنه بالنسبة للأحزاب متغيّر بتغيّر المصالح، ورياح التحالفات الحاصلة والممكنة. ولعلّ الإضطراب الذي يشهده الموقف من قانون تحصين الثورة خير مثال على ما أقول. فهو في بعض الأحيان أولوية عاجلة، وأحيانا أخرى، يتوارى عن جدول الأولويات، وتحلّ قضايا أخرى ثانوية مكانه. وهذا ما جعل عرضه ومناقشته في المجلس التأسيسي يتأخّر إلى اليوم. الشارع التونسي مؤمن بضرورة تحقيق أهداف الثّورة، وسدّ منافذ الإستبداد، بكل السبل والوسائل. لكن الأحزاب لها أولويات أخرى مختلفة، ما جعل أهداف الثورة حية في قلوب الناس، رخوة في أولويات الأحزاب، أو هي في برامجها تتقدّم وتتأخّر مثل البورصة، ولا تقف على قاعدة واضحة وموقف ثابت. وهذا ما جعل أكثر من نصف التونسيين لا يثقون بالأحزاب التي يزيد عددها عن المائة، ويدّعي جميعها الإلتصاق بهموم المواطنين ومشاغلهم. في ظلّ هذا التذبذب، وجدت جيوب الرّدّة المناهضة للثورة ظالتها، فوظّفت قدراتها المالية واللوجستية لتشغل القوى الثورية والرأي العام، بقضايا وهمية، عرفت كيف تصنعها وتوجّه إليها وسائل الإعلام. وعادت بالتوازي مع ذلك جيوب الفساد وشبكاته إلى العمل. بدأت باستحياء، ولكنها خلال الأشهر الأخيرة أخذت تمارس طقوسها بدون خجل ولا خوف من أحد، في مختلف المجالات والمؤسسات. حتى الذين لفّوا أنفسهم برداء الثورة، عادوا هذه المدة إلى سالف أنشطتهم المشبوهة، وأحيوا شبكاتهم، واستأنفوا مسلسل الفساد الذي ألفوه خلال حكم بن علي. بل لا أراني إلاّ معبرا عن حقيقة عندما أقول إنّ المؤمنين بالتغيير ومقاومة الفساد والمنتصرين لمسار الثورة، أصبحوا في بعض المؤسسات والمواقع معزولين يشار إليهم بالأصابع. تذكّرت ما قاله لي صديقي السوري وأنا أتأمّل هذا المشهد المؤلم. وعدت إلى طرح سؤال الثورة من جديد، بعد نحو عامين ونصف العام من حصولها: أهي ثورة حقّا، أم "انقلاب مهذّب"؟ أنا لا أشكّ في أنّها ثورة، ولكن صور الواقع هنا وهناك تصفعني في كلّ يوم بحقائق جديدة، مفادها أنّ رقعة الفساد تتمدّد، ومساحة الثورة في مؤسساتنا تتقلّص. أهمّ مشكلات ثورتنا، وأقول بوعي وقصد أنّها ثورة، هي أنّنا أوكلنا أمرها إلى السياسيين، أو بالأحرى وغيرهم من المتنفّذين في شرايين الدولة، ولم نُقِم لها مؤسسات وقوانين ونظم تدعم مسارها وتحميها. فأصبح مصيرها مرهونا بحسن نية السياسي وقدرته على الفعل. فإن هو عجز عن تثبيت أهداف الثّورة، لضعف أو جهل، فسلام على التونسيين وثورتهم. وإن سوّلت له نفسه في لحظة ما التخلّي عنها، لسبب يقدّره وجيها، قد يكون لدنيا يصيبها أو مصلحة يتوهّمها، فلا حول لنا ولا قوة. هكذا أصبح مصير ثورتنا التي استفتحت الربيع العربي، مرهونا بإرادة السياسيين وحدهم. ورغم أنّ تحقيق أهدافها مازال أملا بعيدا، فإننا لم نسمع يوما عن حزب أو جمعية أو تحالف، انتقد واحدا من سياسييه، لارتداده عن أهداف الثورة أو حتى تقاعسه عنها، ووسائل إعلامنا تطفح في كلّ يوم بالتصريحات المتناقضة والتي يعانق كثير منها شبكات الفساد والردّة عن التغيير. الأمر الآخر الملفت في مسيرة ثورتنا خلال العامين المنقضيين من عمرها، هو أنّ الإصطفاف الحزبي والسياسي غير مؤسّس بالدرجة الأولى على تقدّم الثورة وترسيخ قدمها وحماية أهدافها من الضياع. فإذا استثنينا حزب نداء تونس وبقايا التجمع، الذين يستميتون بكل الوسائل والسّبل في وأد الثّورة والتآمر عليها وعلى رجالها، فإنّ بقية الأحزاب السياسية مازالت في ترتيب أولوياتها ووضع أجنداتها وعلاقات قياداتها وتحالفاتها الداخلية، تخضع لأولويات أخرى خاصة بكل حزب منها، وبقي الحفاظ على روح الثورة واستمراريتها واحدا من مجموعة محركات أخرى متعدّدة، وليس الوحيد أو حتّى الأوّل. حتى أحزاب الترويكا الثلاثة التي تقود التحالف الحكومي، والتي أعتبر استمرار تحالفها ضمانا أساسيا لاستمرار الثورة ونجاحها، فإنّ أولوياتها الداخلية والحزبية أقوى صوتا من البعد الثّوري فيها. انظر ترتيب قيادييها مثلا، فستجد البعد الثوري ليس سوى واحد من مجموعة عناصر أخرى كثيرة تساهم في عملية الترتيب وتقديم هذا عن ذاك. وستجد أنّ الفكر والعقلية الإصلاحيين، بل البراغماتي إلى حدّ التماهي مع اللاثورة أحيانا، حاضر فيها بقوّة. وقد تجد أحيانا قياديا أو وزيرا يحمل خطابا ثوريا ملفتا، ولكنّك عندما تبحث في وسائله وآلياته، فإنّك ترتدّ منكسرا، لأنّها هي ذاتها التي قادتنا إلى الفساد والدكتاتورية. ويظهر في هذه الصّورة، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، أكثر الأحزاب ثورية من خلال الخطاب السياسي لرموزه ومسؤوليه. لكنّ هذه الصورة سرعان ما تنهار، عندما ترى هشاشة وحدته وضعف قدرة رموزه على التعايش في ظلّ الإختلافات الظرفية التي تجدّ بينهم. فيتراجع بذلك منسوبه من الثورية، لأنّ الحرص على الوحدة والقدرة على تحمّل الإختلافات، ركيزة مهمّة في نحاج أيّة ثورة، وهذا ما غفل عنه كثيرون منهم. هناك عنصر آخر بالغ الأهمية والتأثير، في نجاح واستمرارية الثورة، ألا وهو آلية العمل الحكومي والوزاري، وأدواته، وثقافته. فقد تشكّلت الحكومة من أحزاب تؤمن بالثورة وتعمل على ترسيخ قدمها وتعميق بنائها، ولكنها لم تلتفت إلى ضرورة تعديل ثقافتها وأدوات عملها وهياكل مؤسساتها والعلاقات التي تحكمها، على ساعة الثّورة. نعم تغيّر الوزراء، ولكن الثقافة والأجواء التي تسود دواوينهم والمحيطين بهم، وهيكلة وزاراتهم وبقية مؤسسات الدولة، بقيت على حالها. بل إنّ الرجال القائمين على ذلك - وأغلبهم احتفظوا بمواقعهم من العهد السابق - لم يخضعوا إلى إعادة توزيع، فضلا عن تغيير رؤيتهم وفهمهم للمواطن وللدولة والحكومة والوزير والمسؤول. فاحتفوا بالقادمين الجدد فترة من الوقت، وتلبّسوا خطابهم الثوريّ، ثم عادوا بسرعة إلى ما كانوا عليه من ثقافة وسلوك وعلاقات تعيد الفساد إلى سابق مكانه. وجدتني في النهاية أتساءل: ماذا تغيّر في المنظومة؟ ومن هم الفاعلون الحقيقيون في الحكومة والدولة اليوم؟ أهم جنود العهد الإستبدادي البائد، أم وزراء ومسؤولون محسوبون على الثّورة، ولكن كثيرا منهم يرى ويسمع بأعين وآذان من قمنا عليهم ورفضناهم؟ سؤال عاد بي إلى تساؤل صديقي الدمشقي، وجعلني أرى أنّ الثورة المضادة في بلادنا، نجحت في محاصرة الثورة ورجالها، وتمكّنت إلى حدّ غير بسيط، من استعادة منظومة الفساد، وتمكين رموزها من معظم مواقعهم السابقة. فقد تمكّنوا مما يريدون، ولا يحتاجون إلى انقلاب عسكري يمكّنون به جنودهم، ويثبّتون به خياراتهم، كما حصل في مصر. لكن المؤمنين بالثورة، والعاملين على ترسيخ قدمها رغم المرارة التي يعيشونها - لم يستسلموا، وإنما هم يقاومون بما يستطيعون، ولا أظنهم قالوا كلمتهم في الثورة، ولا هم أفصحوا عن تقييمهم لأداء الحكومة. لذلك، تنتظر بلادنا محطات حاسمة في تحديد مستقبل ثورتها، وما الإرتباك الحكومي الذي نراه، والقلق السياسي الذي نعيشه، سوى مؤشرات على أنّ لثورتنا أسئلة حارقة لا تقبل طويل انتظار، ولا تتحمّل مزيد التردّد.