مع عدد شهر جوان من مجلة دبي الثقافية ثلاث هدايا هي رواية "مملكة الفراشة" للأديب الجزائري واسيني الأعرج وديوان "عطب الروح" لزوجته الشاعرة الدكتورة زينب الأعوج وقرص مضغوط بعنوان "تجليات الشعر والنغم" ألحان وأداء جاهدة وهبه "عطب الروح" وهو قصيدة طويلة او ملحمة إنسانية طافحة بالمعاناة وصدق الأحاسيس والإيقاعات والترنيمات الحزينة التي تجرعت فيها الشاعرة مرارة أوجاع النهايات وآلامها. نهايات علاقاتنا بذكرى رموز الطيبة والصبر والبطولات المدوية في صراعها مع الحياة، والمقصود بالنهايات هنا ليس وفاة هؤلاء الأبطال أجدادا كانوا او آباء او إخوة منذ غابر الأزمان وإنما دفنهم -وما يمثلونه من كبرياء وعزة ورغبة في تواصل الحياة واحتضان الإنسان فيها- في قبور الذاكرة الجماعية المحفورة عميقا والموصدة بشتى أشكال القيود تعود الذاكرة في بعض صفحات هذا القصيد المطول بالدكتورة زينب الأعوج إلى أزمان بعيدة تلجها من باب الحنين لتتقصى ما نحت من أحاسيس وأفكار وتواريخ ما إن لامست سطحها حتى بانت هوة سحيقة اتسعت لتكشف عن رداء عنكبوت كسحابة بلا لون تتمزق كلما غارت الشاعرة أعمق تتقاذفها الطبقات الواحدة بعد الأخرى إلى أن تصل إلى ظلمات الجب فتنهل منه ما يذكي الألم ويعمل السكين في الجرح ثم تربطها بالراهن وتعمل فيه مشرطها هروب إلى الجدة بحثا عن الأمان والشاعرة زينب الأعوج هي مؤلفة ومترجمة للشعر وناقدة ودارسة للأدب. وهي أستاذة وباحثة في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية بفرنسا لذا تنم قصيدتها هذه عن معرفة وثقافة وفيها صدى لمطالعات في مجال اختصاصها جعل قصيدة "يا جدتي العتيقة" ثرية لغة ومفاهيم ورموزا ومصطلحات خاطبت فيها الدكتورة رمز الحكمة والطيبة والحضن الذي يهرب له الحفيد من العصا. وباحت لها بما يتعبها من قضايا عصرها وما تتمناه للإنسان قالت زينب وقد فضحت أسرار ديوانها منذ أولى صفحاتها: "تصوروا لو كانت كل هذه القذائف زرعا وبذورا// ولو كانت كل هذه القنابل// أشجارا وثمارا ونخيلا// ولو كانت كل هذه المدافع// قمحا وشعيرا// ولو كان كل ما يتساقط من موت السماء// عطرا وماء زلالا// كم من الحياة تزهر في قلوبنا// وكم من طفل ينغرس في حضن عرائسنا// وكم من حكيم يتوسد حكمته وينام قرير العين هانئ البال// يعشق التربة ولا يخاف من الحاكم ولا من سلطان" رحلة.. السماء فيها مبهمة والليل ضرير بكاء على الأطلال تتخلله ومضات من الفرح والبهجة ملفوفة في لحاف من الحزن ورحلة بلون الغراب إلى المجهول، السماء فيها مبهمة والليل ضرير في زمن بلا سند ولا أعمدة حوّط التراب خلالها على أسراره.. رحلة بلا حادي ولا دليل إلا من النواح والعويل ذاك هو ديوان "عطب الروح" لزينب الأعوج ذكريات مؤلمة وحنين إلى ماضي الأسلاف التليد وأسف مغلف بكبرياء واعتزاز تطفح منه مرارة الشعور باليتم بعد رحيل الأجداد والآباء رمز العزة والقوة والأنفة والإحساس بالوحدة وقلة الجاه والسند بعد ان مزقت الفتن وحرب العصابات الإرهابية أجساد إخوة لها في الوطن والعقيدة ولعلها هنا تشير إلى المآسي التي عاشها الشعب الجزائري في تسعينات القرن الماضي واليتيمة في ديوان "عطب الروح" هي الشاعرة التي ترثي أجدادا رحلوا حاملين رفات الأجداد وأجداد الأجداد وتبكي حال أمهات في بلدها حملن وزر الجدات وجدات الجدات وهن يرزحن تحت ثقل نظرة المجتمع السلبية لهن والحكم عليهن بالبقاء مكبلات حيث يسمح لهن.. وتجمع شتات إخوة رحلوا عند الهزيع الأول من الفتنة. وهنا تستشرف الشاعرة المستقبل بكثير من القتامة والفزع لإيمانها بان كل هؤلاء تم دفنهم في قبور عميقة لا قرار لها وتقول في يأس تام إنها تلم أشلاء إخوة لم يولدوا بعد في تلميح لما تركه العنف الذي شهدته الجزائر في النفوس من آثار سلبية ونظرة سوداوية للحياة في تربة غزاها الشعور بالموت والتراجع إلى الوراء "نموت فيها قبل أن نولد" وقبل أن تتشهى الأمهات فاكهة المرارة لما يشبه وهم الوحم".. تربة يموت فيها الحلم وتتوهم فيها المرأة الحمل.. تربة عقيمة لا تنجب إلا الوهم قبور تبرجت وأفصحت عن غصتها في هذا الديوان والى جانب الوصف الدقيق للحالات الإنسانية تنمّق زينب وتوشّح قصائدها بالتفاصيل الصغرى اللازمة للبوح ولتقريب واقع القصيدة من القارئ.. تلك التفاصيل التي يعيشها الإنسان خلال ومضات من الوعي بتدرج السنين وهي تتعاقب تعاقب الفصول -وان كانت هذه الأخيرة تختلف في تعاقبها اذ تعود وقد تجاوزت جراح الماضي وتولد وهي حبلى بالآمال والأحلام على عكس إنسان ديوان "عطب الروح". وقد اعتنت زينب بلغة ديوانها واغلبها من السهل الممتنع مصطلحاتها عميقة في ما تؤدي إليه من مفاهيم ومعان (قبور تبرجت وأفصحت عن غصتها) وصور شعرية (الصمت يركض مثل النار ص 111) ودلالات على تطور أحاسيس بالتوازي مع تقدم البائحة -الشاعرة- في رحلتها هذه.. لغة تحكي الصمت وتزرع الإحساس بالغياب بقدرة متمكن من ناصية اللغة حاكم في مقاليد الأسلوب فارضة بنية غير متداولة للقصيدة الحديثة تجعلها تنفذ إلى مكامن النفس التائقة دوما إلى العجيب والغريب من الأساطير والملاحم التي تروي التراث العربي وتصله بالثقافة الراهنة وتؤثر فيه أحلام وخواطر ورموز أثرت في الشاعرة وعطّبت روحها وأتعبتها وتغلبت عليها واحتلت في الديوان مرتبة العنوان لسطوتها وجبروتها وضربها للشاعرة الضربة القاضية التي جعلتها ترزح تحت ثقل هذا العنوان وتتّبع في انصياع تام الطريق التي فرض عليها أن تشقها.. "عطب الروح" عنوان دقيق لحالة حرجة ومعدية لمن يريد ان يقرأ هذا الديوان