"أنا بخير ولن أستقيل".. تلك كانت الرسالة المقتضبة التي أطلقها رئيس الوزراء الليبي علي زيدان بعد تعرّضه للاختطاف فجر أمس دون توضيحات إضافية حول ظروف و ملابسات اختطافه ولا حول شروط أو دوافع أو تفاصيل الاتفاق الذي قد يكون ساعد على الإفراج عنه بعد نحو خمس ساعات من وقوعه في قبضة ما بات يعرف ب"مكتب ثوار ليبيا"، لتنكبّ مختلف وسائل الإعلام طوال ساعات على متابعة ما يحدث في ليبيا تحسّبا للأسوإ.. كل ذلك قبل أن يأتي البيان الحكومي ليعلن عن نهاية العملية وتوجّه زيدان الى مقر رئاسة الحكومة ليترأس اجتماعا للوزراء و كأن شيئا لم يكن... طبعا مثل هذا المشهد لا يمكن أن يحدث في غير ليبيا إحدى دول الربيع العربي التي ما انفكت تحمل الينا المفاجآت المتتالية على وقع تطبيق مشروع الفوضى الخلاقة على يد الميليشيات المسلحة التي تسيطر على المشهد وترسم توجّهاته المستقبلية على أنقاض أربعة عقود من إرث القذافي.. لم يقل زيدان الكثير، بل انه لم يقل شيئا عن خاطفيه.. اختار التكتم بشأن ما عاشه خلال تلك الساعات، وقد تكون للرجل أسبابه لعدم الإفصاح عن ذلك. ولعل النقطة الأولى التي وجب التوقف عندها مع اختطاف زيدان أن الجماعة التي كانت هدّدت برد الفعل والانتقام لابو أنس الليبي لم تتوقف عند حدود التهديدات الكلامية بل ذهبت الى تنفيذ وعيدها باستهداف رئيس الوزراء الذي يفترض أنه يخضع لحراسة أمنية غير قابلة للاختراق، وهذه الجماعة بقرارهاإطلاق سراحه دون إراقة قطرة دم قد تكون أرادت توجيه تحذير علني للسلطات الليبية وحلفائها بأن يدها طويلة وبالتالي قادرة على استهداف أي مسؤول ليبي مهما كان موقعه... رسالة استفزازية وعملية إرهابية لا تخلو من الابتزاز بالتزامن مع مرور سنة على تولي زيدان مهامه بعد استبعاد مصطفى شاقور، لتثير أكثر من نقطة استفهام حول مصير ليبيا في ظل تفاقم سيطرة الجماعات المسلحة وعودة فيلق المقاتلين السابقين في أفغانستان والعراق وسوريا وعجز السلطات الليبية عن إعادة تنظيم الحركات المسلحة تحت مظلة جيش ليبي يضمن حماية الحدود ويقلص مظاهر الفوضى ومخاطر السلاح... وبالعودة الى ما تمّ تسريبه عن عملية الاختطاف التي جاءت غداة عودة رئيس الوزراء الليبي من جولة مغاربية شملت زيارة تونس وكان محورها أمنيا على خلفية ما تمّ ترويجه حول وجود معسكرات تدريب على الحدود بين البلدين ومخاوف من عمليات تسريب للسّلاح، وربما تنفيذ عمليات إرهابية.. وأيضا بعد خمسة أيام على إقدام وحدة من القوات الامريكية على اعتقال أبو أنس الليبي أحد أخطر المطلوبين لدى أمريكا منذ ثلاثة عشر عاما أمام بيته بالعاصمة الليبية طرابلس، فقد كان واضحا أن الجماعة التي نفذتها تعمّدت تكرار مشهد اختطاف هذا الأخير على الأقل من حيث التوقيت، فاستهدفت زيدان في مقر اقامته فجرا وتحدّت بالتالي حرّاسه. وإذا كانت العملية تبدو في نهاية المطاف أشبه بمبارزة بين أطفال الحي فإنها كشفت ما خفي من المشهد الليبي المستباح من تجار السلاح والعصابات المسلحة المرتهنة لصراعات القبائل وأنصار القذافي. بل الواقع أن عمليات الخطف باتت من الأحداث التي تكاد تكون عادية في ليبيا وهي تذكّر بما يحدث في اليمن أو في الصومال، مع اختلاف مهمّ وهو أن العصابات المارقة في هذين البلدين تستهدف الزوار الأجانب بغرض الحصول على فدية وتكديس الأموال. وكانت مثل هذه العمليات - ولا تزال - وراء تأجيل محاكمة سيف الإسلام القذافي بسبب عدم قدرة السلطات الليبية على تأمين نقله من بنغازي الى العاصمة طرابلس. والواقع أن عملية اختطاف زيدان وإن كانت أثارت الكثير من ردود الفعل الدولية فإنها سلطت الأضواء مجدّدا على ترسانة السّلاح المنتشرة في ليبيا والتي كان زيدان قد طالب المجتمع الدولي أكثرمن مرة بمساعدته على مواجهة مخاطرها بعد أن تحوّلت ليبيا الى سوق مفتوحة لكل أنواع السلاح، لا سيما وأن تقاريرعديدة أكّدت أنه بالإضافة الى الأسطول الذي حرص القذافي على اقتنائه، فان سفنا محمّلة بالسلاح إلى الثوار وجدت طريقها خلال الحرب على نظام القذافي، إلى ليبيا عن طريق دول عربية موّلت وساعدت على ذلك... الأرجح أن اختطاف رئيس الوزراء الليبي وإن لم يستمرّ غير بضع ساعات وانتهت لحسن حظه بعودته سالما، فإنها ليست مجرّد زوبعة في فنجان وليست حادثا طارئا، ولكنها نقطة سوداء تضاف الى نقاط سوداء كثيرة أخرى في بلد كان ينتج 1.2 مليار برميل نفط يوميا وتراجع إنتاجه اليوم الى 650 برميلا. ليبيا اليوم مهدّدة بالتحول إلى "صومال المتوسط" في ظل غياب مؤسّسات الدولة والتي لم يسع القذافي إلى إرسائها طوال أربعين عاما من نظام حكم اقطاعي استأصل كل فكر إصلاحي وقطع الطريق أمام كل معارض سياسي فتحوّلت المدارس والجامعات الليبية الى منابر لتلقين مبادئ الكتاب الاخضر وتجهيل العامة وتفليس العقول ومصادرة الوعي. وليس من المبالغة الإقرار بأن وقوع ليبيا في قبضة العصابات المسلحة بات يمثل عنصر تهديد لدول الجوار بعد أن تسرّب اليها الخطر عبر الخلايا النائمة والجماعات المسلحة المنبثقة عن تنظيم "القاعدة" والذي وجد له في ليبيا أرضية للتفريخ... لعل الشيء المؤكّد الوحيد في انتظار أن يكشف زيدان عن أسرار الساعات القليلة التي قضاها في قبضة الخاطفين، أن النتيجة الوحيدة الواضحة تبقى أنه لا ليبيا ولا زيدان بخير حتى هذه المرحلة...