تمر سنة كاملة على وفاة الأستاذة نبيهة جراد كلمح البصر، ولئن غابت عنا جسدا فهي حاضرة في قلب كل فرد من أفراد عائلتها الكريمة، وهي حاضرة يلهج باسمها كل من عرفها من زملائها، وهي حاضرة في ذهن كل من جلس للأخذ عنها أو الاستماع إليها من طلبتها . وهي حاضرة ترفرف روحها في رحاب مكتبات جامعية عديدة داخل تونس وخارجها بما دبجه قلمها من دراسات افادت البحث العلمي في جامعاتنا وفي كثير من مراكز البحث في العالم إن في حضور البعض من زملائها من الخارج في أربعينيتها في السنة الفارطة وحضورهم اليوم بعد سنة من وفاتها دليلا قاطعا على أن شموس العلم ممن فرضوا أنفسهم على الساحة الجامعية لن تغيب، فهي دائمة الاشعاع ويجد فيها الباحثون دائما قبسا من نور العلم فكرا ومنهجا لقد خسرت كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس عامة، وقسم الفرنسية فيها بصفة خاصة أستاذة جامعية قديرة وجديرة بهذا الاسم، خسرتها وهي في أوج عطائها العلمي والتربوي، خسرتها بما في شخصيتها من بعد انساني وتسامح فكري، فهي بتواضعها قدوة حسنة وهي بجديتها مثل أعلى، وهي بتسامحها نموذج فريد: لقد قام أحد الأشقياء بانتشال محفظتها من يدها ذات يوم، فلم تتحسر عما كان فيها من مال، وإنما تحسرت على ما في "مفتاح" حاسوبها من وثائق وبحوث، وعندما التجأت إلى الشرطة طلبت إعانتها على استرجاع مفتاح الحاسوب فقط، ورفضت أن تقدم شكوى ضد هذا المنحرف، بل بررت فعلته تلك بما يعانيه شبابنا العاطل من خصاصة وفقر تجرهم إلى مثل هذه الأفعال الدنيئة ولئن استغرب بعضهم من موقفها هذا، فأنا شخصيا لا أستغرب ذلك، فأنا أعرف والدها المرحوم الصادق جراد (شهر امحمد)، طيب الله ثراه، والقولة "هذا الغصن من تلك الشجرة" تنطبق على الأستاذة نبيهة جراد، لقد كنا نقضي اجازتنا الصيفية في شبه جزيرة بونومة بأرخبيل قرقنة وكانت وسائل النقل في بداية السبعينيات من القرن الماضي معدومة أو تكاد، وكانت السيارات الخاصة قليلة جدا، من بينها سيارة المرحوم الصادق جراد، هذه السيارة وسائقها هو مالكها تصبح سيارة إسعاف لكل مريض توجب حالته الصحية نقله إلى المستشفى المحلي بالرملة (على بعد حوالي 12 كلم)، أو لكل محتاج ملهوف يريد قضاء أمر ملزم له عائليا أو إداريا بمدينة صفاقس، وعليه أن ينتقل من بونومة إلى ميناء سيدي يوسف (على بعد حوالي 25 كلم) لركوب الباخرة الرابطة بين الأرخبيل وشاطئ القارة إن البعد الإنساني الملاحظ في شخصية الأستاذة نبيهة جراد ورثته عن والدها وتربت عليه في حضن والدتها أمد الله في أنفاسها فاطمة الحيلي أخت المرحوم المربي رابح الحيلي، وأخت الدكتور العميد علي الحيلي شفاه الله، وهما ما هما علما وأخلاقا، تربية وسلوكا، وأثرهما في الأجيال المتعاقبة منذ الاستقلال إلى اليوم واضح وجلي. إن وفاة نبيهة جراد فجأة إثر حادث مرور فظيع في الطريق الرابطة بين مرسى الدحمانين وشبه جزيرة بونومة في 19/10/2012 يذكرني بنهاية الكاتب الفرنسي الكبير (ألبار كامو Albert Camus) صاحب الرواية العالمية الذائعة الصيت (الغريب l?étranger)، في حادث مرور مأسوي باغت أصحابه وأصدقاءه في يوم من أيام سنة 1960. وكما ترك ألبار كامو فراغا في المجالين الصحافي والإبداعي تركت نبيهة جراد فراغا في مجالي التدريس والبحث بالجامعة التونسية، وفاجأ موتها جميع طلبتها وكل أصدقائها وكامل أفراد عائلة "دار جراد" بتونس العاصمة وبالشرقي قرقنة إن وفاة الاثنين يضع نصب أعيننا قضية "عبثية الحياة" التي لا نجد خلاصا من كابوسها إلا بالإيمان بقضاء الله وقدره، قال تعالى "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" صدق الله العظيم