لقد راهنت تونس منذ فجر الاستقلال على التربية والتعليم, وأنجزت الكثير في هذا المجال في هذه الفترة الوجيزة نسبيا. لقد ربحنا عن جدارة رهان الكم: بنيت آلاف المدارس والمعاهد والكليات والمخابر, وارتفعت نسب التمدرس ارتفاعا كبيرا والتحق أطفال تونس بصفوف الدراسة بنين وبنات حتى إن نسبة تعليم الفتيات تعتبر من النسب المرتفعة على الصعيد العربي. كما شهد قطاع التعليم العالي تطورا ملحوظا في العقدين الأخيرين نقله من طور تعليم النخبة إلى طور تعليم الجموع الغفيرة, وارتفع عدد الشعب والمسالك والمؤسسات وتنوع. إن كسب رهان الكم قد وضعنا وجها لوجه مع كسب رهان الكيف, فبعد أن وفرت الدولة مقعدا لكل طفل بلغ سن التمدرس وفتحت الجامعات ومؤسسات التعليم العالي بكل أشكالها وأصنافها لكل حاملي شهادة البكالوريا حان الوقت الآن لكسب رهان الجودة. وهذا في اعتقادي أكبر تحد. إن كسب رهان الكيف مختلف اختلافا جذريا عن كسب رهان الكم, ولذا لم يعد في امكاننا استعمال نفس الطرق التي مكنتنا من ربح رهان الكم لربح رهان الجودة. يجب علينا استحداث آليات وطرق جديدة تمكننا من كسب مثل هذا الرهان. فمثلا لما اختارت وزارة التربية توفير الحواسيب وتشبيكها في كل المؤسسات التربوية التابعة لها أعلنت عن سلسلسة من طلب العروض الوطنية والعالمية لتوفير ذلك, واستعملت لتحقيق ذلك ممارسات معينة لإنجاح عمليات الاقتناء والتشبيك. لكن لو أردنا أن نجود من مردودية مؤسساتنا فلا يمكننا أن نستورد الجودة لا من الولاياتالمتحدة ولا من أوروبا ولا من اليابان ولا حتى من الأسواق الموازية مثل ماليزيا أو الصين أو الهند. إن جودة التعليم هي أساسا جودة تعلم تلاميذتنا وطلبتنا. وهذا التعلم الجيد هو الذي كان يشير إليه أجدادنا بقولهم "العلم في الرأس وليس في الكراس", أي التعلم الذي يحوله الطالب إلى معرفة حقيقية وإلى مهارات لا إلى الإلمام بأشياء عديدة وعدم التمكن من أي منها أو حذقها حذقا تاما. ولتحقيق جودة التعلم، يجب أولا أن نقيم ممارساتنا الحالية وأن نسبر مواطن الضعف والقوة فيها ثم نقارنها بالمقاييس والمؤشرات العالمية لجسر أية هوة بين ممارساتنا الحالية وبين هذه المؤشرات والمقاييس. إن الوعي بقيمة التقييم لأداء مؤسساتنا التربوية التقييم العلمي والموضوعي لهو الضمانة الوحيدة لإنجاح أي مجهود نبذله كأفراد أو مؤسسسات أو سلطة إشراف لتجويد مردودية مؤسساتنا على مختلف المستويات. وبما أن جودة التعليم هي أساسا جودة التعليم والتعلم فإن كسب رهان الجودة يشترط انخراط كل العاملين والمنتفعين وإيمانهم بضرورة تغيير الممارسات القديمة بممارسات جديدة يرجى منها الكثير. ولا يمكن أن يكون مثل هذا الانخراط بالغصب والإكراه ولا بتنفيذ الأوامر لكن بالنقاش والإقناع. لا يمكن أن نتوقع من جموع الأساتذة التي تعد بالآلاف أن تعمل كلها على تجويد الممارسات اليومية ولكن يجب أن تقتنع كلها بدون استثناء بقيمة التغيير وفوائده. ليس عجز الميزانيات هو الذي يعرقل من حركة التغيير إلى ما هو أحسن ولكن عجز الهمم والنوايا والعمل الجدي. لقد أصبحت جودة التعليم من الرهانات التي يجب على كل البلدان التفكير جديا في كسبها.. ومع بداية القرن الحالي أصبح الترفيع في عدد المنتسبين والمتخرجين أمرا ثانويا بالمقارنة مع جودة المخرجات, وبات من الواضح أن الحق في التعليم الجيد لهو أهم وأنجع للأفراد والمجموعة الوطنية من الحق في الانتساب. وبعد أن كان اهتمام الأغلبية التوسيع من رقعة مؤسسات التعليم, أصبح السؤال الآن يتناول ما إذا ما كانت هذه المؤسسات تقوم بواجبها على أحسن وجه وما إذا كان يمكن أن نطمئن كل المنتفعين من أن هذه المنظومة تقوم بمهمتها وأنها تصرف الميزانيات المخصصة لها في تنمية الرأسمال المعرفي. إن أسوء ما يصيب أي نظام تربوي هو أن يخرج حاملوا شهادات يكدسون المعلومات المتفرقة ولكنهم غير قادرين على استعمال أو إنتاج المعرفة ولا يمكنهم من نفع مشغليهم إلا بعد الكثير من الوقت والتكوين. ولو احتسبت المجموعة الوطنية التكلفة الحقيقية للهدر التربوي لعرفت أن جودة التكوين أولوية من الأولويات الوطنية. (*) جامعة تونس [email protected]