أسئلة عديدة يمكن أن تطرح في مثل هذا الوقت حول ماهية ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد التحول الملفت للصراع في سوريا، والذي ينبأ ببداية تحول في قواعد التفاعل في المنطقة، مع تحول لمواقف العناصر التي تؤثث جيوسياسة الصراع في سوريا ودخول عنصر جديد وهو روسيا بقوة على خط المواجهة خاصة على خط المواجهة الغربي قرب السواحل السورية أين تكمن أحد أبرز المنافذ الروسية على "المياه الدافئة". لا مفك في أن الطرح الروسي في هذا التغيير ينبع من تقاطع مصالح بارز وبصفة استراتيجية كبيرة بالنسبة ل"روسيا بوتين" الجديدة ونظام الرئيس السوري بشار الأسد. فالملاحظ أن استراتيجية الغرب للصراع في سوريا قائمة على "انتقائية" في تعامله مع عناصر الصراع، في ظل معادلة صعبة تشكلت مع ظهور تنظيم «داعش» في سنة 2013، الذي أصبح يهدد أمن دول الجوار وكذلك الغرب وفي ظل أزمة كبيرة للاجئين الذين اجتاحوا أوروبا. تلك الانتقائية الغربية تقوم على ضرب تنظيم «داعش» الذي، حسب هذه النظرة، هو العدو الأول الذي يهدد كل من العراق (للتذكير فإن التحالف الغربي بدأ في ضرب التنظيم عندما اقترب من كركوك واستولى على مصفاة بيجي أكبر مصافي النفط العراقية)، حيث قصف مواقع التنظيم في كل من الرقة والموصل وغيرها من محافظاتالعراق وأكثر ما وصل اليه في قصفه هو مدينة عين العرب كوباني، فيما واصل دعمه للتنظيمات الأخرى التي تحارب غرب ووسط سوريا وخاصة في ادلب-التي استولى عليه ما يعرف بجيش الإسلام الذي يعتبر عموده «جبهة النصرة» ذراع تنظيم القاعدة في سوريا-، واتجه إلى اللاذقية حيث معقل أنصار الرئيس السوري بشار الأسد وكذلك مكان وجود أحد أبرز عناصر التي ترتكز عليها الاستراتيجية الروسية الجديدة –أو المتجددة- في ادارتها لسياستها الدولية وهي طرطوس، أو ما كان يطلق عليه ايام الحرب الباردة ب»الحدود السابعة» للاتحاد السوفياتي. ومن منطلق هذه النظرة الانتقائية للغرب في ادارته للصراع الدائر في سورياوالعراق فإن روسيا اختارت أن تكيل بنفس المكيال وأن تختار "نظرتها الانتقائية" في استراتيجيها للصراع، واختارت أن تدعم النظام السوري وأن تدخل مباشرة على خط المواجهة والصراع بطائراتها وسلاحها وعتادها وديبلوماسيتها، وأن تفرض على الغرب واقعا جديدا، خاصة في ظل «اللعبة» التي يمارسها الغرب بالضرب على خيطين: اضرب "داعش" وادعم "النصرة" وحاول اسقاط النظام وتنصيب حكومة جديدة لسوريا من ائتلاف المعارضة السورية المشتتت في ولائه بين قطر والمملكة العربية السعودية. في خضم هذه اللعبة، فإن قواعد الاشتباك تغيرت وذهبت الأصوات نحو «مرحلة انتقالية» يكون الأسد مشاركا فيها، خاصة مع فشل واشنطن في إدارة الصراع عسكريا وتدريبها لمقاتلي ما سمتهم "مقاتلي المعارضة المعتدلين" الذين دربوا في تركيا ولكنهم سرعان ما التحقوا بجبهة النصرة. من هذا المنطلق فانه يمكن القول أن من حق روسيا في اطار «اللعبة المطروحة» جيوسياسيا حماية «حدودها السابعة» وضمان موقع لها في المياه الدافئة، وممارسة مراقبة على الخط التجاري الأول، كما من حق «الآخرين» في اطار نفس اللعبة أن يقوموا بلعبة التشتيت والتفريق لكسب النزاع. في نفس الاطار، فإن معرفة اطوار بداية الصراع وتطوره يمكن من معرفة ما تطرحه نظرية اللعبة وما فرضته في واقع النزاع على الأرض، خاصة، مع حساب قوة ممارسة هذه اللعبة بين جانبين في صراع معين يمكن أن ينتج أضرار جانبية تتمثلها مجموعة أخطاء ينتجها الاعوجاج عند طرح الاستراتيجية للتطبيق، وبتراكم هذه الأضرار تصبح عنصر بارزا في الاستراتيجية، إن لم تكن طرفا في معادلتها، وهو ما يسبب فوضى سرعان ما تطغى وتخرج من عقال ما هو مخطط خاصة إذا ما كانت بعض الأطراف المتحالفة لم تلتزم بما هو مخطط، وهو نفس ما أفرزته "جيوسياسة الصراع" في سوريا منذ بدايته في سنة 2011: طرفان قويان يتصراعان (أمريكا من ورائها قطر والسعودية -رغم التنافر الاقليمي بينهما- وتركيا ضد روسيا ومن ورائها إيران ودمشق وحزب الله) في أرض ثالثة (سوريا) وبقواعد وبأدوات ثالثة وأفرزت أضرار جانبية تمثلت أساسا في جماعات ارهابية (جبهة النصرة ومن لف لفها) وخسائر انسانية (أزمة لاجئين كبيرة في بلدان الجوار) سرعان ما تكتلت وأفرزت عنصرا جديدا في معادلة جيوسياسة الصراع وعقدها وهو "داعش" إضافة إلى تعمق اشكالية اللاجئين وامتدادها جغرافيا نحو أفق آخر (أوروبا) وتوسعها نحو حدود ثانية (ليبيا وسيناء واليمن).. ولعل هذا التعقد والامتداد جعل من طرفي الصراع القويين ينزلان مباشرة إلى خط المواجهة وينقلان الصراع إلى مستوى ثان، لكن هذه المرة في إطار جديد وهو إطار «لعبة كسر العظام»، ويبدآن بصياغة قواعد أخرى لجيوسياسة الصراع في سورياوالعراق، ولكن هذه المرة بقواعد اشتباك جديدة. هذه القواعد الجديدة لن تتشكل إلا بعد المفاهمات الغربية والروسية والإيرانية في اطار الأممالمتحدة، وإعادة نسج قواعد الصراع من خلال إعادة صياغة العدو الذي يجب حربه ومن ثم تخلي الطرفين عن "النظرة الانتقائية" في ادارتهم للصراع في سوريا. من هذه الزاوية، يمكن أن تنتقل "اللعبة" من "كسر العظام" و"لي الاذرع" إلى "المصافحة الديبلوماسية" وإعادة ترتيب البيت السوري وفق سيناريوهات جديدة قائمة على أساس تفاهمات "جنيف1" و"جنيف2" المنسيتين، خاصة وأن الجانب الروسي مستعد من جديد للدفع بسيناريو "استقلال القرم" على الطاولة.