يبدو أن الكلمة التي ألقاها الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في منتدى حوار المتوسط 2016 الذي احتضنته روما مؤخرا لم تحظ بما فيه الكفاية من تحليل على صعيدي وسائل الإعلام والنخبة السياسية ذلك أن الكلمة تستحق التوقف عندها خصوصا ما أعلنه الغنوشي من أن الحركة لم تعد مشمولة بمصطلح "الإسلام السياسي" الذي أثار الكثير من الجدل بعد 14 جانفي 2011 وألقى بظلاله على الحياة السياسية بل كان السبب الرئيسي في ظهور استقطاب صبغ المشهد العام إلى حين "التوافق" المسجل بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية والمتواصل عبر تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. البداية من قطر وممن المفارقات أنه في ظل العلاقات بين الباجي قائد السبسي والغنوشي سواء كانت منها الشخصية أو السياسية، فاجأ رئيس الجمهورية الرأي العام التونسي والعربي بتصريح تعددت القراءات بشأنه وما إذا كان موجها للاستهلاك الخارجي أو يتضمن رسالة إلى الداخل وتحديدا إلى حركة النهضة. لا شك أن الكثيرين مازالوا يتذكرون الزيارة التي أدها السبسي إلى قطر ولقائه يوم 19 ماي الماضي بعدد من وسائل الإعلام حيث أكد "أن الإسلام السياسي لا مستقبل له" وحينها لم يفهم التونسيون ما إذا كان رئيس الجمهورية بصدد بعث رسالة طمأنة لدول خليجية معينة أم أنه كان يعلن تحديا لدول أخرى بخصوص الإسلام السياسي أو أنه ارتأى مخاطبة النهضة حليف نداء تونس عبر تحذير خفي مفاده أن الحركة لا يتعين عليها انتهاج وجهة غير تلك المتماهية مع مصطلح أكد ما يسمى ب"الربيع العربي" فشله كبديل سياسي نظريا وعمليا ولعل ما حصل لتنظيم الاخوان المسلمين في مصر خير دليل. وفي 12 أكتوبر الماضي نشرت صحيفة "القدس العربي" حديثا للباجي قائد السبسي جدد فيه موقفه من زاوية ذاتية بقوله "أنا ضد الإسلام السياسي" في سياق يمكن القول أنه يهدف إلى حث حركة النهضة على إعلان مبادرة بخصوص مرجعيتها وتشجيعها على الخروج من جبة الإسلام السياسي ومن ثم من جبة الإخوان التي طالما بقيت عالقة بالمخيلة التونسية رغم نفي قيادات الحركة أيه صلة تنظيمية بين النهضة والإخوان المسلمين فيما كانت تشيد بتجربة حزبي العدالة والتنمية في كل من تركيا والمغرب. لقد بدا الباجي قائد السبسي منذ توليه الرئاسة ملحا على نقطة الإسلام السياسي فلم يترك مناسبة تمر دون أن يجدد موقفه وكان آخرها يوم 28 نوفمبر الماضي في حديث لقناة "العربية"، حينما أضفى على موقفه طابعا محليا يحوصل التجربة التونسية بقوله" نرفض الإسلام السياسي.. لا يوجد ربيع عربي وإنما بداية ربيع تونسي" وبهذا التصريح يكون السبسي قد حدد إطارا خارج الايدولوجيا لكي تحدد فيه حركة النهضة موقعها صلب المشهد السياسي. الغنوشي يستجيب في عاصمة غربية أما عن سبب رفضه للإسلام السياسي، فيبرره الباجي قائد السبسي بقوله "نحن في تونس مؤهلون ليكون عندنا ربيع عربي، لأن عندنا نظاماً ديمقراطياً" وبعد بضعة أيام فقط التقط الغنوشي الإشارة خلال مشاركته في منتدى حوار المتوسط وكأنه أراد إبراز انسجام مع "حليفه في التوافق" ليؤكد في الندوة الحاملة لعنوان" الديمقراطية والسياسات:أي دور للإسلام؟"مدى انسجامه مع موقف رئيس الجمهورية قائلا: " البلد الذي تجاوز المرحلة الاستبداديّة التي كان النظام السياسي قائما فيها على القمع والاستبداد هو بلد تجاوز أيضا مرحلة "الإسلام السياسي" وفيه يمكن ل"الإسلام الديمقراطي" أن يأخذ موقعا".. لكن ما يُلاحظ وما يدعو إلى التساؤل هو أن الحديث عن الإسلام السياسي ومواقف الطرفين كان في جانب كبير منه إما خارج تونس أو من خلال وسائل إعلام أجنبية بما يدفع إلى التأويل وخصوصا في ما إذا كانت المسألة شأنا تونسيا خالصا أم أنها لا تطرح إلا في إطار عربي أشمل. قد يُفهم من هذا الطرح أن الباجي قائد السبسي ربما أراد تجنيب حركة النهضة حرجا هو في غنى عنه في مرحلة التوافق بما يُعد تدخلا في شأن النهضة الداخلي وهو حتى إن تحدث عن الإسلام السياسي فإنه لا يربط المصطلح بالنهضة. وهنا يمكن أن نجد نقطة التقاء بين السبسي والغنوشي وهي أن لديهما رسالة مشتركة موجهة إلى الخارج، أولا للدول الشقيقة في الخليج التي تتفاوت موقفها من الإسلام السياسي، وثانيا للدول الغربية خصوصا بعد فشل تجربة الاخوان في مصر والمحاولة الانقلابية في تركيا وفوز حزب العدالة والتنمية في المغرب، في أكتوبر الماضي، بأغلبية المقاعد في إطار الانتخابات البرلمانية أمام منافسه "حزب الأصالة والمعاصرة" العلماني والذي ركز حملته الانتخابية على رفض "أسلمة" المجتمع المغربي. يمكن القول أننا أمام مشهد سمته تفكك الإسلام السياسي والتعويل على التجارب المحلية "الوطنية" ذلك أن التخلص من تهمة الانتماء إلى تنظيم دولي للإخوان المسلمين كفيل بالنأي عن مثل تلك الأحزاب من منظار النخب السياسية الغربية التي أصبحت تتوجس من كل ما هو في علاقة بالإسلام بعد العمليات الإرهابية في فرنسا وموجة اللاجئين من سوريا والعراق في أوروبا التي قد تغير عديد المعطيات والثوابت وقد تفتح المجال أمام الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة بل وتخدم أيضا الأحزاب المحافظة أو ما أصبح يُعرف بالمحافظين الجدد خصوصا في فرنسا من خلال مرشح اليمين فرانسوا فيون. عودة إلى تسعينات القرن الماضي فوجود أحزاب كانت ضمن مكونات الإسلام السياسي في السلطة تحكم مباشرة أو من خلال تحالفات أصبح يستدعي خطابا جديدا لكنه بالنسبة لتونس يبقى منقوصا لأنه لم ينبثق من نقاشات وتم تفويت مناقشات عميقة على النخبة السياسية ربما كانت ستبدد عديد المخاوف من أسلمة المجتمع وتنهي الاستقطاب على الصعيد الايديولجي. على الصعيد التنظيمي لحركة النهضة وبعد الفصل بين الجانب الدعوي والسياسي مازالت الصورة غير واضحة، فباستثناء ابتعاد بعض الوجوه المعروفة بتشددها الفكري عن الأضواء مازالت المسألة الدعوية مطروحة ذلك أنه على الصعيد الشخصي يمكن توقع أنشطة دعوية فردية لكن تبقى أطرها غير واضحة، أي هل سيكون ذلك في المساجد أم في إطار نشاط جمعياتي. واضح أن اعتماد "الإسلام الديمقراطي" يشكل عودة إلى مشروع بحثي غربي بدأ في أواخر تسعينات القرن الماضي وكان يمثل بديلا لمصطلح "الإسلام الأصولي " ثم جاء الإسلام السياسي الذي مهد لفوز الاسلاميين "الجدد" في تركيا بعد الضربة الموجهة لحزب "الرفاه" بزعامة نجم الدين أربكان ، واليوم وفي ظل تصاعد مصطلح "الإسلام الجهادي" الذي أصبح محوريا في النقاش العام في الغرب وأصبح دعامة للاسلاموفوبيا في عديد البلدان الغربية. وقد كان الوضع في سوريا والعراق مجالا تداخلت فيه التنظيمات الإسلامية المسلحة في علاقة بالواقع الذي فرضه تنظيم "داعش " الإرهابي حتى أصبح المشهد صعبا لدى بعض البلدان الخليجية وعديد البلدان الغربية بعد تداخل على الصعيدين المذهبي والاديولوجي وفي علاقة بتنظيم "القاعدة " الذي قبل طلاقا بالتراضي بينه وبين "جبهة النصرة" التي كانت تصنف من قبل الإدارة الأمريكية تنظيما إرهابيا لتتخذ في جويلية الماضي مسمى" جبهة فتح الشام" بعد "قطيعتها" مع "القاعدة". وأمام تنامي موجة الكراهية للإسلام والمسلمين في عديد البلدان الغربية قد يصبح مصطلح "الإسلام الديمقراطي" مهربا من الاتهامات والأفكار المسبقة لكن هناك سؤال هام يظل مطروحا وهو لماذا نتحدث في تونس عن إسلام ديمقراطي وكأن هناك "إسلامات" عديدة بما يعني تعددية للإسلام في حد ذاته كدين لا ندري ما رأي الفقهاء فيها، مثلما يبقى تصنيف حركة النهضة مطروحا وذلك في علاقة بالعلمانية. سرعان ما تعود بنا الذاكرة إلى الجدل والتشنج اللذين رافقا مناقشة الفصل الأول من الدستور وكيف تم التوافق بشأنه بما يعني ،ضمنا، عدم الزج بالدين في الحياة السياسية فما رأي الحركة النهضة حينما تشهر "الإسلام الديمقراطي" في التجربة الديمقراطية التونسية؟. بقلم: نور الدين عاشور جريدة الصباح بتاريخ 13 ديسمبر 2016