بيان تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي الذي صدر الثلاثاء 12 فيفري، الحامل لوسم "الحرب على الإسلام في تونسوالجزائر.. إلى متى السكوت"، كان وفيا للأدبيات الإسلامية المتطرفة في الموقف من الأنظمة والدول والقوانين والتعليم، إلا أنه مثل أيضا موقفا قصويا مما يسود في تونسوالجزائر من أحداث متشابهة بدأت من مسائل التعليم وتشظت إلى سجالات دينية وهووية عميقة. لم يتأخر بيان تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي عن "الإسهام" في الجدل الدائر في تونس منذ أسابيع على خلفية المدرسة القرآنية بالرقاب التي لفتت الانتباه إلى ظاهرة المدارس الدينية المنفلتة عن البرامج والمناهج الرسمية، والتي تبين أنها ساهمت في إنتاج عناصر متطرفين تحول بعضهم إلى مقاتلين في بؤر التطرف (سوريا وليبيا وحتى اليمن وغيرها). المثير في البيان أنه لم يفصل قضية المدرسة القرآنية في الرقاب، عما يحدث مؤخرا في الجزائر، على خلفية قرار وزيرة التربية نورية بن غبريط منع الصلاة في المدارس انطلاقا من كون "الصلاة تؤدى في المساجد التي تسمح بتحقيق كل الضوابط اللازمة للقيام بالواجبات". الوصل بين محاربة ظاهرة المدارس القرآنية المنفلتة في تونس وقرار بن غبريط منع الصلاة في المدارس، كان وصلا مقصودا، ويهدف إلى التوصل إلى هدف محدد عنوانه المركزي أن البلدين يعرفان "حربا على الإسلام"، وكان ذلك طاغيا على عنوان البيان كما على مفاصله. في تونس أحدث التحقيق الصحافي الذي أنجزته قناة تلفزيونية خاصة، حول ما سمي مدرسة قرآنية بالرقاب من محافظة سيدي بوزيد جدلا كبيرا، وأماط اللثام عن ظاهرة التعليم الديني الخارج عن سيطرة الدولة، والذي مثل أحد مخلفات مرحلة الترويكا السابقة التي سهلت أو تغاضت عن بروز العديد من الظواهر الدينية الموازية والخارجة عن سيطرة الدولة وإشرافها، من قبيل الخيمات الدعوية والمساجد الخاضعة لسيطرة السلفيين والاستعراضات الدينية والمدارس وغيرها من تمظهرات تحلل الدولة وشيوع الانفلات الديني الذي مثل وقتها منطلقا لارتفاع صوت التيارات المتطرفة، كما كان التغاضي الرسمي، وقتها، عن ذلك الانفلات يتقصد مغازلة ذلك الخزان الانتخابي، ولذلك لم تكن غريبة وقتها مشاهدة خروج مظاهرات السلفيين من جامع الفتح في قلب العاصمة سواء للاحتجاج أو للمطالبة أو حتى لممارسة اعتداءات أو لمنع التظاهرات الثقافية أو مهاجمة المعالم الصوفية (مهم هنا التذكير بأن الاعتداء على السفارة الأميركية في تونس يوم 14 سبتمبر 2012 انطلق من مظاهرة خرجت من جامع الفتح المذكور). الجامع بين كل الأحداث المشار إليها، وبين كل التعبيرات غير الآبهة وغير المعترفة بوجود دولة، وبين مبررات ذلك التغاضي الرسمي، كان عنوانه الخفي غير المعلن هو الشعور بوجود "حرب على الإسلام"، سواء نبع ذلك الشعور من عمل سينمائي أو قرار سياسي يسعى لاسترجاع نفوذ الدولة على مجالها، وهو بالتحديد ما ركز عليه بيان تنظيم القاعدة الجديد الذي تعمد نقل قرار إداري (سواء بغلق مدارس خارج القانون أو بمنع الصلاة في المدارس) إلى مرتبة حرب تشن على الإسلام، ومن هنا نفهم الحرص على الجمع بين القطرين واعتبار الأمر قضية واحدة بتعبيرين مختلفين. اكتست قضية المدرسة القرآنية في الرقاب، كما قرار وزيرة التربية الجزائرية، أهمية سياسية كبرى في سياق الظرفية التي يمر بها البلدان. ظرفية موسومة باستعداد البلدين لاستحقاقين انتخابيين قادمين، تعلق عليهما آمال كبيرة في تونسوالجزائر، مع وجود تشابهات كبيرة من ناحية الأزمة، واختلافات كثيرة من ناحية الشكل والخصوصيات. المهم أن البيان لم يهمل هذه الظرفيات، حتى وإن كان غير معني بهذه الانشغالات السياسية في معانيها القانونية والديمقراطية، باعتبار قطيعة الأدبيات الإسلامية عن هذه الثقافة. تنظيم القاعدة وإن كان غير معترف بالدولة والديمقراطية والانتخابات، ويعتبرها كلها تجليات "للطاغوت"، إلا أنه كان واعيا (في بيانه) بمسألة التوقيت والسياق والظرفية التي نزل من خلالها موقفه. في سؤال الكيفية أو أسلوب صوغ البيان كان ملفتا الاستدعاء التاريخي لمسألتين متجاورتين: الأولى إصلاحات وزير التربية التونسي الأسبق محمد الشرفي انطلاقا من العام 1991 والتي ركزت على "تمكين الناشئة منذ حداثة عهدها بالحياة بما يجب أن تتعلمه حتى يترسخ فيها الوعي بالهوية الوطنية التونسية وينمو لديها الحس المدني والشعور بالانتماء الحضاري وطنيا ومغاربيا وعربيا وإسلاميا ويتدعم عندها التفتح على الحداثة والحضارة الإنسانية مع تربية الناشئة على الوفاء لتونس والولاء لها"، والتي ووجهت بانتقادات كبيرة نبعت في أغلبها من منطلقات إسلامية رأت في الإصلاحات قطعا مع الهوية الإسلامية لتونس. المسألة الثانية هي الإشارة إلى لجنة علي بن زاغو التي أمر الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بتشكيلها حال وصوله إلى السلطة في العام 1999، وكلفت بإجراء إصلاحات عميقة في المنظومة التربوية الجزائرية. لذلك فإن بيان تنظيم القاعدة اعتبر أن لجنة بن زاغو "صاغت منظومة خالية تماما من أصول ومبادئ الهوية الإسلامية" مثلما تحدث عن "فساد المناهج الدراسية التي تم طمس معالم الهوية الإسلامية منها من قبل المجرم الشرفي". والواضح هنا تركيز البيان على "الهوية الإسلامية" للبلدين في مغازلة تتفق مع أغلب ما ورد في الانتقادات التي تفاعلت مع غلق المدارس القرآنية في تونس أو مع قرار منع الصلاة في الجزائر. كان البيان وفيا في الاستجابة ل"هموم" القواعد الإسلامية في البلدين حتى تلك البعيدة عن أدبياته، ولعل ذلك كان مقصودا لبيان أن التنظيم وإن ابتعد سياسيا عن المنتمين إلى التيارات الإسلامية إلا أنه مازال يشاركهم ذات الهموم الأيديولوجية وأقربها حراسة الهوية الإسلامية والذود عنها من "هجمة أعداء الإسلام". يندرج البيان أيضا في ظرفية تونسية تميزت بأن السجال المترتب على قضية غلق الفضاءات الدينية العشوائية، أفرز نقاشات متباينة جدا، قوامها المسافة الكبيرة التي تفصل بين من اعتبر غلق المدارس القرآنية العشوائية يراد به محاصرة الإسلام من خلال منع تدريس القرآن، وبين من اعتبر الأمر عملا من صميم الدولة التي يحق لها بسط شرعيتها ونفوذها وقوانينها، وكان البيان موضوع الدراسة منتصرا لوجهة النظر الأولى التي راهنت على ما يمثله القرآن في التصورات الشعبية بشكل عام.المسألة الثانية المترتبة على سجال المدارس القرآنية العشوائية هي ما تداعى من تصريحات سياسية كان أهمها تصريح القيادي النهضوي التونسي لطفي زيتون الذي أقر بوجوب "‘تحرير الإسلام من الصراع الحزبي والاقتناع نهائيا بأن الإسلام ملك للشعب التونسي. ملك ل12 مليون تونسي حتى لمن لا يعتنق الإسلام" ودعا إلى "ضرورة تخليص الإسلام من استعماله في السياسة". تصريحات زيتون كما الجدل المثار حول المدرسة القرآنية وما تخللها من مواقف قيادات نهضوية، كانت اختبارا جديدا لمدى وجاهة القول بتحول حركة النهضة إلى الفضاء السياسي المدني وفك ارتباطها بالإسلام كما تراه مادة للتوظيف. ورغم تناقض تصريحات زيتون مع تصريحات قيادات نهضوية أخرى كثيرة في هذا الباب، إلا أن تصريح زيتون عُدّ اعترافا (من الداخل) بأن النهضة تستخدم الإسلام في صراعاتها الحزبية وهو ما دفعه إلى إطلاق دعوته تلك، بصرف النظر عن دواعي ودوافع تصريحه. في هذا الباب بالتحديد يعيد بيان القاعدة الأمر إلى مجراه حسب التصور الإسلامي "الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة" وطالما أن الإسلام في خطر فإن البيان لا يرى ضيرا في إعادة إيقاد الاستقطاب الهووي بوضع المزيد من الحطب في نيرانه بالتساؤل "إلى متى السكوت؟". بيان "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" كان وفيا للأدبيات الإسلامية الأصولية، التي لا تعترف بالقوانين ولا بالدول ولا بالأنظمة السياسية الحديثة، ورغم التسرع الواضح في شكله وصياغته ومواقفه، إلا أنه كان دقيقا في مواقفه من "الطواغيت" وفي استدعائه لتاريخ الإصلاحات التربوية، وكان مغازلا للقواعد الإسلامية التي أبدت في العديد من المناسبات امتعاضها من أداء حركة النهضة في تونس في ما يتصل ببعض القضايا الخلافية، ولذلك فإن الرد على هذا البيان وإيلائه ما يستحق من اهتمام سياسي هو عمل في عهدة حركة النهضة التي يفترض أن تتفاعل مع هذا الموقف القاعدي، وفق مستويين: مستوى سياسي يقوم على الرد على هذا البيان بإعلان تبرؤها من مضامينه وتفطنها لمحاولة القاعدة الاستثمار في المسافة التي تفصل الحركة عن قواعدها. والمستوى الثاني هو مستوى عملي يقوم على إثبات مدنيتها فعليا والتوقف عن استعمال الإسلام في صراعاتها السياسية، ودون ذلك فإن سكوت النهضة على هذا البيان لن يعد مجرد إهمال بل سيرتقي إلى سكوت من قبيل علامات الرضا أو الاعتماد المتبادل.(لعرب)