عدد الجالسين على مقاعد مقهى قبالة مدرسة بباب الجديد تستقبل الناخبين كان أكبر من العابرين على صندوق الاقتراع.. جلس «أيمن» يراقب وسخرية يشوبها الألم تغزو ملامحه.. «لم أنتخب» بكل إصرار أجاب عن سؤال ووجهناه لجميع الجالسين في المقهى .. بين «تمتمات» الجميع كان صوته الأعلى: «ليس لدي ثقة في مشاريعهم، هي حبر على ورق.. نعم اخترت المقاطعة عن قناعة فلا توجد إرادة جادة ورؤية لمستقبل تونس ولا يعنيني أن يذهب صوتي هباء فالرئيس مختار من الغرب وهؤلاء مجرد إكسسوارات لإتقان اللعبة وإخراجها في مظهر ديمقراطي ثوري يليق بتونس، التي يرغبون في تسويقها لا ماهي عليه في الحقيقة.. الغرب يتدخل في اقتصادنا وسيادتنا وكل تفاصيل حياتنا.. أيمن وهو من بين 119.736 ناخبا أعمارهم بين 26 و45 سنة وتمثل هذه الفئة العمرية النسبة الأكبر من الناخبين يتساءل: «لماذا أختار رئيسا لن يكون رئيسا..!» صدى كلمات «أيمن» رافقت جولة «الصباح الأسبوعي» في تونس العاصمة وأريانة.. بين الأحياء الشعبية والراقية منها، تنقلنا نبحث عن العازفين عن الانتخابات وأسباب عزوفهم هل يشاطرون «أيمن» قناعاته بالمقاطعة أم ظروف ما منعتهم من التصويت للرئيس القادم. يقول «قيس» وهو شاب جامعي لم يتجاوز 25 من العمر: «لا أفكر في الانتخاب لا يعنيني الموضوع وهذا قرار اتخذته بعد متابعتي لكل المرشحين.. لست من الشباب، الذي يفكر في مغادرة البلاد سأبقى في تونس ولكن لا أحد من 26 مترشحا يستحق صوتي فهم لا يملكون الحلول وسيغرقون البلاد أكثر في أزماتها.» لا أثق في أي مرشح أسباب لطفي لمقاطعة الانتخابات الرئاسية تختلف فهو يتحدث عن تجربة سابقة خلفت الخيبة، يقول محدثنا وهو أحد الباعة في سوق «المنصف باي» «في 2014 اخترت وتحمست وأملت في التغيير لكن الوعود كانت واهية لم يتحقق شيء وزاد حالنا سوءا وللأسف الفوز يكون لمن يشتري أصوات أكثر ويدفع أكثر» ..مضيفا: «لم أعد أثق في المرشحين لا توجد مصداقية أشعر أن هناك لوبيات وحتى لو هناك مرشح قادر على إنقاذ تونس فلن يتركه يستمر أو يصل للدور الثاني.. الطامعون في تونس كثيرون والفاسدون لن يتركوها تتعافى خاصة وأنهم يلقون الدعم من ساستها..» «لن انتخب» دون مقدمات أجابنا بائع التين الهندي في تقاطع «برشلونة» و»باب علوية» هو شاب بدت تجاعيد الحزن على ملامحه وهو لم يتجاوز 34 من العمر ومع ذلك جعلته الام الحياة يشيخ باكرا، حدثنا عن زوجته وأمه وإعالته لثلاث أطفال، يبحث عن لقمة العيش على عربات التين الشوكي واللوز ويحارب يوميا للبقاء يضيف محدثنا لماذا أنتخب رئيسا أو حكومة تأتي اخر النهار لتكسر عربتي وتأخذ نقود قليلة جمعتها بعرق جبيني لماذا أنتخب في بلد لا تحترم حقوق «الزوالي» ..أنا أعمل يوميا وفي نهاية ليلة الخميس والسبت من كل أسبوع أذهب تجاه البحر لعلي أجد فرصتي في الهجرة السرية نعم لم أكف عن المحاولة رغم أنهم يمسكون بي في كل مرة سأظل أفكر في «الحرقة» حتى أعيش وأعيل عائلتي.. في هذه البلاد أنتخب أو لا انتخب لا مكان للفقير..» من سيء إلى أسوأ عزيزة كانت تمارس عملها في التنظيف قرب سوق أريانة لم تخف موقفها من الساسة وقالت أنها سبق وانتخبت حتى قبل الثورة هي دائما تختار من يساعدها على العيش الكريم وهذه المرة من ترى أنه قادر على توفير ما ترغب فيه موجود في السجن ولن تنتخب غيره... المرأة بملامحها المتعبة تنبض الحياة في عيونها وتبحث عن سبل للعيش رغم واقعها المرير تقول الساسة يمضون الوقت في الخصام ونحن عامّة الشعب نمضي يومنا في العمل وليلنا في العناية بعائلاتنا وبيوتنا كل ما نحتاجه رئيس يلبي أبسط حاجياتنا فهل هذا يستحق في ظل كل هذه الفوضى..» في 23 من العمر يملك بيتا وسيارة ومع ذلك يفكر في مغادرة البلاد هذا بعض من حياة حمزة الشاب، الذي اعتبر أن الوضع في البلاد لا يطاق وأن هذا اليوم الأحد المتزامن مع الانتخابات الرئاسية المبكرة زاده حنقا.. أسباب حمزة للمغادرة مرتبطة بحال تونس يقول: «ماذا بقي في البلاد؟ شاهديها بالليل وستعرفين لماذا الشباب مدمن ولماذا البطالة متفشية ولماذا الوضع كل يوم من سيء إلى الأسوأ..» الثورة، التي تعتمل في أعماق حمزة تستقبلها دلندة (موظفة متقاعدة) بهدوء سيدة خبرت الحياة في هذا البلد.. حدثتنا ونحن نتبع خطواتها وهي تتجول مع كلب صغير في احدى حدائق المنزه: «ذاك الشاب يذكرني بأبنائي، اثنان منهم في كندا والثالث يدرس بفرنسا لقد طلبوا مني المغادرة لكن ذكرياتي هنا أحب قضاء أيامي في تونس حتى في هذا الأحد».. تصمت وكأنها تنتظر أن نطرح عليها سؤالنا عن الانتخابات كما فعلنا مع الشاب حمزة ولكنها لم تكن في حاجة لنكرر طلبنا فقد استهلت مجددا الكلام وهي تنظر لكلبها السعيد بجولته الصباحية: «لم انتخب وعن قناعة.. لم أصدق المرشحين ولا أجد في برامجهم ما يحمسني لتغيير موقفي، يؤسفني قول ذلك لكن فقدت الثقة في كفاءات تونس وساستها وهذا الأحد بالنسبة لي كغيره من الأيام أشرب قهوتي وأخرج للتنزه صباحا كما تشاهدني مع كلبي في هدوء دون أن ألوث سمعي بأحاديث التلفازات والإذاعات عن مستقبل واهم.. هاجروا أبنائي وأنا أشيخ هنا في بلاد أحبها رغم تألمي ممّا وصلت إليه حالها..» الكثير من الألم جولتنا في أحياء تونس ومقاهيها وأسواقها حملت الكثير من الألم في نفوسنا، تقاسمنا خلالها لحظات تلقائية وصادقة مع مواطنين تبنوا مواقف مقاطعة وعزوف عن الانتخابات الرئاسية.. لكل مبرراته وحكاياته ومنظوره للأشياء لكن ما جمع بين المتحدثين ل»الصباح الأسبوعي» قبل يأسهم من حال الساسة وفقدانهم الثقة في قادة الرأي في بلدهم هو حبهم لتونس ولئن عبروا عن هذا الشغف بالمقاطعة إلا أن ذلك لا ينفي تعلقهم ببلادهم حتى لو خانتهم وخذلتهم الظروف. نجلاء قموع