تنعقد غدا الأربعاء جلسة عامة برلمانية في دورة استثنائية مُخصصة لأداء رئيس الجمهورية المُنتخب اليمين الدستورية كسابع رئيس للدولة منذ إعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957. لكن ما ينتظره التونسيون والعالم، ليس فقط الجانب الشكلي البروتوكولي المصاحب لإجراءات التنصيب الدستورية فقط، ومراسم تسلم السلطة في قصر قرطاج، لكن أيضا فحوى أول خطاب رسمي لرئيس الجمهورية المنتخب في انتخابات رئاسية سابقة لأوانها جرت في دورتين، وتم الإعلان رسميا عن نتائجها النهائية يوم الخميس 17 أكتوبر الجاري من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. غدا، مرة أخرى، يستقطب قيس سعيد الأنظار في الداخل والخارج، ليكون محور اهتمام الراي العام الوطني، وهو الذي شكّل مفاجأة الدور الأول للانتخابات الرئاسية التي جرت يوم 15 سبتمبر، حين حلّ أوّلا، ليؤكد فوزه في الدور الثاني بنسبة تقارب 72 بالمائة من مجموع الأصوات. مع الجزم في الآن نفسه، بأن جزءا كبيرا من هذا الاهتمام الشعبي والإعلامي والعالمي، يعود بالأساس إلى نجاح تجربة الحكم الديمقراطي في تونس والتي تكاد تنفرد بها البلاد في العالم العربي. ورغم تصدّر مسألة مشاورات تشكيل الحكومة من قبل الحزب الفائز بأكثر مقاعد في الانتخابات التشريعية، المشهد السياسي خلال نهاية الأسبوع المنقضي، إلا أن صورة قيس سعيد سرعان ما تعود إلى الواجهة إعلاميا وسياسيا، إما تلميحا او تصريحا. فالرجل حاضر حتى بالغياب، خاصة أن الجدل السياسي بخصوص تشكيل الحكومة وفرص نجاحها وتفاصيل تركيبتها وطبيعتها، طال دور الرئيس وتأثيره واحتمال "تورطه" في تشكيل الحكومة ورسم ملامحها.. ولعل المفارقة التي ميّزت انتخابات 2019، أنها وضعت موضوع منصب رئيس الجمهورية في مقام اول قبل موضوع البرلمان الجديد مع تقديم الانتخابات الرئاسية على التشريعية (وذلك إثر وفاة رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي يوم 25 جويلية 2019)، وقد كان لهذا التقديم الأثر البيّن على المسار الانتخابي بصفة عامة الذي انطلق يوم 15 سبتمبر 2019. وكانت تداعياته مؤثرة على نتائج الانتخابات التشريعية التي انتظمت لاحقا بتاريخ 6 اكتوبر 2019. التصريح بالمكاسب.. أولى خطوات التنصيب الملفت للأمر، أن الأضواء اتجهت أمس- مجددا- إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد، خلال اتمامه لإجراءات تصريحه بمكاسبه بمقر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، حين أدلى بتصريح جديد موجّه هذه المرة إلى الأحزاب والطبقة السياسية المعنية اكثر بمشاورات تشكيل الحكومة الجديدة بقوله:" الحكومة الجديدة لا يجب أن تقوم على مجرد توزيع المناصب بل على تحمل الأمانة والمسؤولية". ويعتبر التصريح بالمكاسب، أولى الخطوات الواجبة على الرئيس المنتخب قبل تسلمه مهامه، ثم التصريح على الشرف بعدم انتمائه إلى أي حزب أو جهة كانت، وفق ما ينص عليه الدستور. ومهما يكن من أمر، بدأ التونسيون في التعرف اكثر على شخصية رئيسهم الجديد، بعد تصدره المرتبة الأولى في الدور الأول من الرئاسية، وازداد فضولهم أكثر بعد فوزه في الدور الثاني. وقد نجح سعيّد - بحكم تكونه الأكاديمي المتخصص في القانون- في تكوين صورة مغايرة لدى الرأي العام التونسي والناخبين التونسيين بصفة أخص تدور حول صورة الرئيس الزاهد النظيف المنتصر لتطبيق القانون واحترام علوية الدستور والمتلزم بإرجاع هيبة الدولة واعادة الاعتبار لقيم الشفافية والرقابة والمساءلة وتكريس العدالة الاجتماعية.. ويتطلع التونسيون إلى رؤية رئيسهم الجديد في ثوب الرئيس الجامع، العادل، الواضح في مواقفه، وهو الذي طبع في أذهان ناخبيه صورة الرئيس المستقل عن كل التجاذبات السياسية، والنزيه والمتعفف عن اغراءات السلطة والحكم.. في انتظار خطاب التعيين.. عرف عن قيس سعيد، في فترة ما بعد 2011 بتصريحاته الإعلامية المغرقة في الجديّة وآراؤه القانونية المتميزة وتحاليله السياسية التي عادة ما تتناول بالنقد الطريف واللاذع لأداء الطبقة السياسية. لكنه لم يظهر كثيرا خلال فترة الانتخابات واكتفى بحملة شبه صامتة. لتتواتر تصريحاته خاصة بعد فوزه غير المنتظر في الدور الأول، ثم في الدور الثاني، وهو الذي قال في جملة شهيرة:" لست في حملة انتخابية لبيع أوهام والتزامات لن أحقّقها، بل أنا ملتزم بما أقول وأعد به، عكس وعود الأحزاب التقليدية التي لم يكن حظ الشعب التونسي منها إلا كحظ المتنبي من وعود كافور الإخشيدي". وقال أيضا -في كلمة إعلان الفوز أمام أنصاره- يوم 13 أكتوبر :" إنها مرحلة تاريخية يستلهم الآخرون منها، عهد الوصاية على تونس انتهى". خطاب التعيين أمام البرلمان، سيكون مرحلة حاسمة وفارقة لتشكيل ملامح خارطة الطريق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سينتهجها قيس سعيد طيلة فترة عهدته التي تمتد لخمس سنوات، كما ستعطي أجوبة واضحة عن مواقف الرجل في ما يتعلق بعدة مسائل تهم الشأن العام ذات الجدل السياسي منها موقفه من الحريات العامة والفردية، وكيفية إدارة الشأن العام والفضاء العام واستغلاله من قبل بعض القوى السياسية والدينية، وموقفه من مشاورات تشكيل الحكومة، وعلاقته المستقبلية برئيس الحكومة، وبالأحزاب والبرلمان، وخاصة تأكيد برنامجه الانتخابي في الجانب المتعلق بمحاربة الفساد والمحسوبية، واعادة الاعتبار للمرفق العام ( صحة- تعليم..) ومشروعه لتنقيح الدستور والقانون الانتخابي، ولنظام الحكم.. فضلا عن موقفه من أمهات القضايا العالمية.. ورغم أنه أمكن لبعض المتابعين والمحللين رسم ملامح تقريبية لمواقف الرئيس من عديد القضايا الوطنية الحارقة وفي علاقة بعلاقات تونس الخارجية، إلا انها تظل مبنية على تصريحات آنية، كما أن المناظرة التلفزية التي جمعته بنبيل القروي المرشح الذي نافس سعيد في الدور الثاني، لا يمكن البناء عليها للجزم بمواقف نهائية رسمية لرئيس جمهورية منتخب علما ان قيس سعيد قال أيضا في خطاب الفوز إن "مشروعه قائم على الحرية". كما أكد أنه سيعمل على دعم القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، واشار إلى أن "تونس ستستمر بقوانينها وتعهداتها الدولية". كما كان حازما ومطمأنا في ما يتعلق موضوع احترام حرية الإعلام والرأي والتعبير حين دعا في تصريح لوكالة تونس افريقيا للأبناء إلى "احترام الإعلاميين والمؤسسات الإعلاميّة وأن لا يتم التعرض لأحد في جسده أو عرضه أو ماله." وطالب بعدم الردّ على أيّ موقف مهما كان إلا بالفكرة قائلا: "ولا تقارعوا الفكرة إلا بمثلها ولا الحجّة بغير الحجّة.. العالم بأسره ينظر بإعجاب إلى تونس". خطاب التعيين سيكون إذن، حلقة مهمة وفارقة في المشهد السياسي التونسي الجديد والمتغير، على أمل أن يكون خطابا جامعا لكل التونسيين مترجما لتطلعات أكثر من مليونين و700 الف ناخب تونسي ينتمون لكل الفئات والمشارب والأعمار والاتجاهات السياسية والثقافية والفكرية. خطاب مطمئنا على كل ما تحقق لتونس من مكاسب منذ الاستقلال.. رفيق بن عبد الله