مثلما يحتفل مسرح "بعلبك" بلبنان بالدبكة وهي الموسيقى التقليدية لديهم بالمسرحيات الغنائية والمواويل ، تحتفي مدينة نفطة قلب تونس الصوفي بموسيقاها التقليدية الروحية في عرض صوفي "الزيارة" ضمن المهرجان الدولي للموسيقى الصوفية في دورته الرابعة. زارت "الزيارة" نفطة فتتالت اللوحات الفنية من نوع كوريغرافيا وتتعالى معها أصوات الدف (البندير) والدربوكة (الطبلة) والطنقورة وحتى الآلات العصرية كالميتال في صور تجسد زيارة أحد أضرحة الأولياء الصالحين فحضر وما يصاحبها من حلقات ذكر وانشاد صوفي هادئ وأغاني تتغنى بسيرة الأولياء الصالحين تبعث السكينة الروحية ثم تصمت الموسيقى الهادئة فاسحة المجال للموسيقى الصاخبة خاصة لصوت الدف (البندير) وما يصاحبها من رقص وتخميرة للعارضين وللجمهور. ومع كل لوحة فنية أتقن المخرج سامي اللجمي الانتقال من أغنية صوفية الى أخرى ومن نوبة الى أخرى ومن رقصة الى أخرى بتصفيق فريقه بالكف وتمايلهم يمينا ويسارا ممسكين أيادي بعضهم البعض ورقصهم بالسيوف والعصي والعكاز، فرقة تتكون من راقصين وعازفين وتقنيين ومنشدين يقارب عدهم ال 100 شخص. ولكل شخص من العارض دور فالصف الأول للمنشدين والثاني للراقصين أما الصف الثاني فكان للعازفين على مختلف الآلات وسط انسجام تام. ديكور صوفي: بخور وعطور وشموع وأعلام وسفساري وتزين الركح بديكور تقليدي من الأعلام الخضراء والحمراء والصفراء التي تتميز بها عادة الزويا الى ارتداء الجبة والشاشية ولبس النساء للسفساري الابيض الذي يغطي جسدهن قادمات الى مكان الضريح محملات ببعض الهدايا داخل قفاف من سعف النخيل الى الماء الذي يوزع على الراقصين في جرة صغيرة وليس كأس بلوري ولا قارورة الى مرش العطر الذي يوضع منه القليل في كل مرة في أكف أيادي العارضين الى رائحة الجاوي التي تنبعث في كل أنحاء الركح الى مزهرية مزركشة بالشموع التي أضاءت المكان وزادته مع ضوء القمر وأضواء الهواتف التي يحملها الجمهور مسحة جمالية راوحت بين اللون الأصفر والأبيض. انطلق العرض بقراءة سورة الفاتحة والتهليل والتكبير فتقديم أغنية "أنا جيت زاير زاير" في اشارة الى زيارة ضريح الولي الصالح لتتواصل الأغاني الصوفية على غرار "ناجيت زاير" و"ياوالي مكناس" و"هايم في الاصحار" و"نبغي نفزعكم " و "الله يا لطيف اللطف" و "زور القبة" و "اذا انخمر" و"العمال على الله" و"يا سيدة يا نغارة" و"الكيلاني" و "يا طير يا طاير" . ولأن السهرة الفنية في نفطة فان الختام كان لا بدا أن يكون مسكا باستعراض "نوبة سيدي بوعلي السني" وهو الولي الصالح الذي يرقد مقامه وسط الواحة القديمة وأغنية "ياساكن القرجومة" التي اهتزت من أجلها المدارج رقصا وتمايلا. وقدم الفنان منير الطرودي بزي صحراوي تقليدي أغنية "يا راكب على الحمراء" صاحبها عزف لموسيقى الجاز والفلامنكو في تمازج بين وكأن اللجمي يبعث برسالة مفادها أن الأغنية الصوفية ليست في خصام مع الآلات العصرية ولا في تنافر مع لمسات ابداع متجددة لا تقف جامدة مكانها لا تبارحه ولكنها لا تتخلى عن أصالتها المتجذرة بل تتماهى معها في خليط يكاد استثنائيا تطرب له الأذن وتعشقه العين. شبابيك مغلقة وجماهير متفاعلة ولأن العرض الناجح يبقى منقوصا دون جمهور متفاعل فقد تدفق الجمهور بغزارة وملأ المدارج رقصا وتصفيقا وزغاريدا وترديدا للأغاني وكأنه حفظها على ظهر قلب ولم تخنه الذاكرة، تلك الذاكرة التي مازالت تحتفظ بأناشيد صوفية من طفولته وطقوس طالما مارسها مع عائلته في احدى مقامات الأولياء وموسيقى يعرفها جيدا وآلات صاحبته لسنوات طويلة، فالأغاني نفسها عن أولياء صالحين من مختلف أنحاء الجمهورية. الزيارة ليست المرة الأولى التي تحط رحالها في نفطة بل هي المرة الثانية وفي نفس المهرجان حيث سبق وأن احتضن ذات المسرح هذا العرض سنة 2017 بنفس لهفة الجمهور وشوقه لتراثه الصوفي ولأجواء الحضرة، رغم أن أول عرض للزيارة في تونس كان على ركح مسرح قرطاج منذ 10 سنوات. عتب الجمهور كان أن العرض تم أمام شبابيك مغلقة والعديد من الأهالي سعوا للتواجد لكنهم لم يتمكنوا من اقتناء تذكرة، حتى أن الكثير منهم بقي يستمع الى العرض أمام المسرح دون الدخول، وبررت الهيئة المديرة للمهرجان بأن طاقة استعاب المسرح لا تسمع باستيعاب المزيد لأسباب أمنية ولسلامة المتفرجين وأن هذه الوضعية خارج عن ارادتهم. حرمان العديد من الاستمتاع بعرض"الزيارة" واستياؤهم أصبح يفرض توسعة المسرح ليكون قادرا على استيعاب المزيد من الحضور.