انطلقت في النادي الإفريقي عملية بحث "مجنونة" عن مدرب جديد وكأن مشكل فريق الأكابر هو المدرب وكأن ليويغ نكرة لا يقدر على النجاح مع الفريق. يعتبر الفرنسي باتريك ليويغ من أبرز المدربين والمكوّنين الذين اشتغلوا في القارة الإفريقية في العشرين سنة الماضية. ويعتبر النادي الإفريقي محظوظا جدا بنجاحه في استقطاب هذا المدرب وإقناعه بالعمل في الحديقة "أ" ونكاد نجزم أنه لولا المشاكل التي عانى منها الملعب التونسي في بداية العام الحالي ورغبة عائلة ليويغ في البقاء بتونس، لما استطاع الإفريقي انتدابه. ومن سوء حظ الإفريقي أن ليويغ جاء إلى الحديقة والفريق مرتبط مع فوزي البنزرتي فلو درّب ليويغ الأكابر منذ أشهر لكان وجه الفريق مغايرا على كل الأصعدة ولفاز بكأس الاتحاد الإفريقي بسهولة.
سبق السيف العذل وحصل ما حصل، وعاد الإفريقي إلى مربّع البداية وذكّرتنا أحداث الأيام الماضية، منذ مباراة فاس، بسيناريو عاشه أنصار النادي والمتابعون للشأن الرياضي منذ عام 2000 بل سئموه وظنّوا أنه ولّى إلى غير رجعة بعد ثورة جانفي 2011 فاكتشفوا أنهم مخطئون وأن الزمن تغير و(بعض) الأشخاص تغيروا لكن السياسات والاختيارات والتكتلات و"التكمبينات" لم تتغير. كان أغلب الملاحظين والرأي العام الرياضي وجماهير الإفريقي يعرفون أن فوزي البنزرتي مدرب تجاوزه الزمن وأهمل كثيرا شغله والفريق الذي يدربه لحساب مشاغله المهنية والخاصة والسياسية. وكان كل العالم يشاهد "شطحات" هذا المدرب التكتيكية والبدنية (نذكّر بما حصل له مع كريم الشمّاري) والعلائقية (relationnels) وفقدانه لثقة الجمهور واللاعبين وخصوماته مع الأقلام والأصوات الحرة (مقابل صداقاته مع كل من يجاملونه ويفرشون له الملاعب "تطبيلا"). كان الكل يشاهد انحدار الإفريقي إلى الهاوية، وينتظرون لحظة الانفجار، ويقفون مشدوهين أمام ما يحصل داخل الفريق وفي محيطه...إلاّ رئيس النادي الإفريقي والعدد الكبير (وهذه سابقة أولى في تونس) من رؤساء فرع كرة القدم. وربّما كان المسؤولون واعين بمكامن الخلل ومظاهر التدهور، إلاّ أنهم كانوا عاجزين عن استباق الأحداث واحتواء المشاكل وإبعاد الفريق عنها، بل كانوا عاجزين مثلما عجز أسلافهم منذ عشريتين تقريبا (وجمال العتروس يعرف جيدا ما نقصده بعشريتين) عن أخذ أبسط القرارات للحفاظ على الحد الأدنى من أجواء العمل وإيقاف نزيف "تغوّل" اللاعبين ومهزلة الإطار الفني. وكيف يمكن لجمال العتروس، أو لغيره من المسؤولين الحاليين، أن "يضع إبرة في خيط" (بالتعبير الدارج) وهم لا يدفعون راتب المدرب ورواتب اللاعبين. وهنا مربط الفرس.
استقلالية القرار، وشخصية المسؤولين حلُمَ أنصار الإفريقي، وعديد التونسيين الغيورين على هذا الصرح الرياضي، بُعَيْد ثورة 14 جانفي بثورة داخل ناديهم تطيح بأكداس من المشاكل وأساليب العمل البالية وبالمتمعّشين أبدا من خيرات النادي. وبقدوم رئيس شاب وعديد المسؤولين الشبان، منّوا أنفسهم بوجه جديد للفريق وبإقلاع حقيقي لا لبلوغ الامتياز والتألق أو الالتحاق بركب الترجي الرياضي والنجم الساحلي، فهذا لا يزال بعيد المنال، بل بتحقيق الحد الأدنى من التنظيم والانضباط والحرفية. لكن العتروس والمحيطين به، وما أكثرهم عددا وأضعفهم عملا، خسروا أول تحدّ: استقلالية قرارهم. ففي غياب مداخيل الملاعب، أول وأبرز مورد مالي للإفريقي منذ سنوات طويلة، وفي غياب الاستشهار والإشهار، لأسباب يطول شرحها، وفي غياب الموارد الذاتية لرئيس النادي، وجد الإفريقي نفسه "رهينة" لمساعدات بضعة أشخاص وعدد صغير جدا من المؤسسات التجارية التي تعاني بدورها من مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية. وأصلح العتروس هذا الضعف بخطأ أفظع: لقد قطع علاقاته (لأسباب تاريخية ذاتية عديدة أغلبها غير مقنع) بأبرز داعمي النادي ومن شكّلوا دوما صمّام أمان للنادي خصوصا عند الأزمات. وفي هذه الظروف، لم يكن جمال العتروس ولا غيره داخل النادي ممسكا بخيوط القرار لذلك لا غرابة في تكرر سيناريوهات تمرّد اللاعبين والانتدابات العشوائية وغطرسة المدرب. وفي غياب مسؤول صاحب شخصية فذة وقادر على استباق الأزمات وتذليل الصعوبات بحنكته وببعد نظره، لم يكن بإمكان أي كان في النادي تغيير شيء في الإفريقي والدليل أن ما نشاهده اليوم في حديقة القبايلي هو نسخة مطابقة للأصل ممّا يحصل أكثر مرة كل موسم منذ سنوات طويلة.
فشل إعلامي أيضا يطول الحديث عن المظاهر المستفحلة لأزمة النادي الإفريقي لكننا لن نفوت فرصة هذا "الحراك" القديم الجديد للقول أن من الأسباب الرئيسية لفشل جمال العتروس في "ثورته" الرياضية هو فشله في التعاطي مع ملف الإعلام. إن من يسيّر النادي الإفريقي اليوم، ومن يؤثر بدرجة عميقة وغريبة في اتخاذ القرار، أقلام وأصوات تتمتع بحظوة غير عادية لدى المسؤولين رغم ماضيها الأسود وسوابقها التي لا تنتهي. ولا غرابة أن نقرأ في صباح ما عمّا أكله العتروس في بيته وحلم به في منامه (هذا حصل بالفعل وليس مجازا) ولا أن نشاهد ونسمع تطبيلا يجعل من العتروس أو غيره "غاليانو" زمانه ومن أشباه اللاعبين ميسّي ورونالدو ومن مدرب فاشل مورينيو جديد. والغريب أن أصحاب مانشتّات الموالاة والتهليل (الموروثة عن العهد البائد) يحظون بكل الترحيب والتبجيل لدى مسؤولي النادي. إن من أبسط قواعد اللعبة، حتى في السياسة، أن تستمع لما يؤلم وللرأي "المعادي" قبل الاستماع لمن يفرحك بنفاقه ومديحه. لكن أنّى لناد لا يضمّ في صفوفه من عمل يوما واحدا في مؤسسة إعلامية أو اتصالية أن يفهم هذه القاعدة الذهبية ويعمل بها!! ولن نزيد أكثر وسنعود لهذا الموضوع في المستقبل.
الإصرار على الخطأ كشف رحيل البنزرتي إذن على أن شيئا لم يتغير في النادي الإفريقي بين الثالث عشر والرابع عشر من جانفي. وأظهر ملف المدرب الجديد للفريق أن الجماعة لم يحفظوا الدرس بعد، ويبدو أنهم لن يفهموه أبدا. وحتى لا نطيل، نتساءل عن سر البحث المحموم عن مدرب من فرنسا أو من غيرها من البلدان والنادي يضم مدربا من أفضل من عمل في البطولة التونسية ونعني باتريك ليويغ. ونتساءل أيضا عمّا سيضيفه بيار لوشانتر، الفاشل مرتين في تونس والعاطل عن العمل منذ طرده من النادي الصفاقسي، أو غي لاكومب الذي يجهل كل شيء عن الكرة التونسية. إن الإصرار على اعتبار ليويغ مدربا وقتيا والإصرار على انتداب مدرب أجنبي أمر مثير لا للدهشة، فلا شيء أصبح يفاجئنا في الإفريقي، بل للشكوك حول الجدوى من ذلك والمستفيدين من صفقة جديدة توحي مسبقا بالفشل. ومادام رئيس النادي الإفريقي يعالج الخطأ بالأخطاء ويخشى تناول المشاكل الحقيقية وغير قادر على اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، فستبقى دار لقمان على حالها. وإلى ثورة أخرى!