قال صاحبي: أمرك عجيب يا هذا ! قلت وأين الغرابة ؟ قال : في كلّ ما تفعل ، وحتى في كلامك ، تبدو به كأنك مربٍّ. قلت وما هو المربّي ؟ حملق في وجهي طويلا باحثا عن جواب ، مستغربا جهلي ما هو المربّي. ابتسم في النهاية ابتسامة منطفئة ساخرة وقال المربّي هو الذي يعلّم ويؤدّب. ابتسمت بدوري وقلت: كلنا إذن مربّون أو هكذا يجب أن نكون. سألني شرح رأيي فانتحلت شخصية الجلّيقيّ – من ساكني أقصى شمال غربيّ شبه الجزيرة الإيبيريّة – الذين يجيبون دوما بسؤال ، فسألت الصّاحب ما هي خصائص وواجبات المربّي ؟ سكت عن الكلام وبدت على وجهه علامات التعجّب معبّرة عن تأكّده من أنّ الجواب من البديهيات ، يعلمها الخاص والعام ، ثمّ عزّز ما عبّرت عنه ملامحه فقال: ومن لا يعلم ذلك ؟ فالمربّي يجب أن يكون عالما بما يلقّنه لطالب علمه ومعرفته ، وأن يحسن النقل والتلقين. قلت كلّ هذا صحيح لكنك أغفلت الأساس والأهم. إنّ أوّل خصائص المربي هو أن يكون مثالا يقتدى. فالمربية الفيلسوفة الطبيبة والعالمة النفسانية الإيطالية تقول" إن المربّي قدّيس وحكيم."(علاّمة) القديس تعني الإيمان أي الجانب الفكري ، والتواضع أيضا وهو المعترف بأنه لا يعرف شيئا. والحكيم هو جانب العقل ، البحث المتواصل عن غير المفهوم. أما سقراط فيذهب إلى ما أبعد فيصف التربية بأنها " فنّ إخراج الباطن إلى الظاهر" فهي إذن نوع من التحرّر. إنها بعث الإنسانية ، فالإنسان لا يكون إنسانا إلا بالتربية ، فكيف – حسب رأيك – يجب أن يكون المربّي ؟ نظرت إلى صاحبي منتظرا جوابه فرأيته فاغرا فاه ، ينظر إليّ وكأنه لا يراني. انتظرته عمدا فإذا بملامحه يبدو عليها الانشراح وقال: ألا ترى يا صاحبي أنّ كلّ هذه الفلسفة والآراء غير عملية ؟ انشرحت بدوري لأنه فتح أمامي باب الغوص في الوضوع على مصراعيه فقلت مسرعا: أصبت والله. فنحن في حاجة إلى الفهم الصحيح ، والعمل المفيد ، والإنجاز السريع. قلت لك قبل حين أننا كلنا مربّون وهي الحقيقة ، لكننا نغفلها ونحصر التربية في المدرسين داخل فصول التعليم وهو لعمري خطأ عظيم. نعم إن المدرس في الكتاب أو الروضة أو المدرسة أو الكلية أو الجامعة هو المربي مهنيا ، وله خصائص وصفات وتصرفات عليه التحلّي بها ، لأنه يقضي الساعات الطوال منفردا بعدد غير قليل من فلذات الأكباد ، جاؤوه ليدرّبهم على السير القويم في دروب الحياة ، وعلى ما يحتاجه ذلك السير من علم ومعرفة ، ودراية يمنعطفات تلك الدروب ، ومفاجآتها وفخاخها وما تخفيه من عثرات وحفر. عشرون أو ثلاثون غلاما وفتاة يركزون عليه أنظارهم ويتابعون حركاته ويلتقطون كلماته وعباراته ، وهم أشبه بالإسفنجة يمتصون ما يشاهدون وما يسمعون ، فتصطبغ به نفوسهم وعقولهم بالرغم منهم ، لأن ذلك الإنسان الواقف المتحرك ، الخطيب اللبق الفصيح ، الذي جاؤوه طوعا ، هو المنار الذي سيهديهم سواء السبيل ، وهو القدوة الذي يُحاكى ويُقلّد في جميع ما يأتيه ويقوله. ألم يقل أمير الشعراء أحمد شوقي" كاد المعلّم أن يكون رسولا "؟ لكلّ هذا وجب على المربّي ، سمّه المؤدب أو المدرّس أو الأستاذ أو ما بدا لك ، أن يتحلّى بكثير الصفات والتصرّفات ، أولها مظهره ، من هندام ، وأناقة ، ونظافة ، ولطف ، وطيب كلام ، وصدق وكلّ ما له صلة بحسن الأخلاق وسموّها. المربّي هو شبكة أو خليط من الإجتماعي والنفساني والبيداغوجي والطبّي والثقافي والعدلي. لكن ، كما سبق القول كلنا مربّون ! فالأم هي أولانا يتبعها الأب ، وربّما الجدّان ، والكبار من الإخوة والجيران والأقارب ، وأهمّ هؤلاء جميعا ، بعد الأبوين والمدرّس ، أولائك الذين بحكم مهنهم ومسؤولياتهم ، يحتلّون الصّدارة أمام التابعين والمتتبّعين عبر كثير الوسائل الإعلامية ، أو المتعطشين لما ينقصهم ويأملون بلوغه بما يقوله أو يفعله من احتل الصدارة واتجه يخاطبهم ، لأنه ، وقد احتل تلك المِنصَّة وظهر في المقدّمة، يبدو في أعينهم ، وهم طالبو المعرفة ، قدوة في كلّ ما يأتيه ، فيصبح بذلك المربي الأكبر، الذي عليه أن يتحلّى بما اشْتُرِط على المربّي المدرّس المعلّم من صفات وأخلاق وتصرّفات. عليه أن يتحلّى ويتّبع قوانين وتعاريف كثيرة ، وضعها المختصون وأيّدهم المفهوم العام والمنطق. فهو ، أراد أم أبى ، الشخص الذي يساعد بواسطة مناهج تقنية معيّنة ، نموّ ونضج الاستقلالية الذاتية لدى مرافقيه أو طلبته ، أو أتباعه داخل مؤسسة أو ضمن حياة الأفراد العادية. فمن واجباته الاستماع لما يعجبه أو لا يعجبه ، والصبر على ما يحبّ أو لا يحب ، وممارسة الحوار ، وانفتاح الفكر ، وروح المزاح ، والثقة بالنفس ، ومحبّة الذين في عهدته ، وعدم التحيّز ، واحترام متطلبات العدالة والأخلاق والأمانة والعفة. استمع لي صاحبي وأنصت مطأطأ الرأس كأنه يحاول تخيّل أو رسم صورة هذا المربّي ، ثمّ رفع رأسه وابتسم كأنه يشكرني أو يطمئنني ، وقال بكلّ ثقة : لكن هذا مستحيل ! قلت ليس ثمّة مستحيل " فلو تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش لناله." فلا وجود للمستحيل ، كما أنّ الكمال لله وحده ، وبين الإثنين ، مجال واسع عريض نجد فيه ممّا ذكرت درجات ، وممّا وصفت القليل أو الكثير أو ما فيه كفاية. المهم هو الإرادة ، إرادة الخير والتصميم على بلوغه ، واتخاذ الخطوة الأولى لأنه كما قال الشاعر الإسباني المناضل أنطونيو ماتشادو: أيها السائر ليس ثمّة درب * يرسم الدّرب بالخطى والمسير. فلنخْطُ الخطوة الأولى ، وسنتبيّن الدّرب أو نرسمه بخطانا وسيرنا إذ الأمور بمباديها. لا تنس أنّ المرء مقلّد بطبعه ، فهو يحاكي الأب أو الأم ، والجار والصديق والمعلم ، وفي أيامنا هذه دخل عامل جديد قوي هو الإذاعة المرئية فحاكى المرء دون تفكير معظم ما تعرضه عليه ، وبما أنّ طالحها أكثر من صالحها ، لم تُقَلّد إلا في السيئ الرديئ. لا تنس يا صاحبي أن العدوى موجودة سارية ، وكما تسري عدوى الفساد تسري أيضا عدوى الاستقامة والصلاح. قال مسرعا: حسن كلّ هذا ولو أنك في رأيي سابح في أحلام وتخيلات ، فأكثرت الخلط ومزجت ما لا يمتزج ، حتى أنك أدمجت الحكام في التربية والتأديب. قلت: أما الأحلام فلا تنس أنها كانت دائما بداية كبريات المخترعات ووسائل النمو والتطور. أما الحكام ، فأنا قصدت الحاكم والمحكوم ، الذكر والأنثى ، الكبير والصغير ، العارف وقليل المعرفة ، الغني والفقير ، وكل من دبّ وهبّ على أرض الوطن ، لأن الواجب نحوه مفروض على الجميع. أما الجالسين على كراسي الحكم والتسيير، فلا تنس يا هذا أنهم أبناء الشعب ، ومن المفروض والمنتظر أنهم يعملون بتوكيل من الشعب ، فيجتهدون لما فيه صلاحه وفلاحه. لذا وجب أن يتحلّوا بأغلب الصفات والأخلاق التي ذكرت ، خاصّة منها الصدق ، والوفاء ، والعفة ، والثقة ، والأمانة ، والشفافة في ما يُقال ويُنجز. إننا شعوب صغيرة شابة ، بالمقارنة مع غيرنا الذين سبقونا في المسيرة المعاصرة ، التي اتخذت بخصوص الدول وأنظمتها وطرق حكمها وتسيير شؤونها ، وما يستوجب ذلك من فهم ، وتصرفات ، وأقوال ، وأفعال ترمي إلى إسعاد الفرد والمجموعة ، وضمان حقوق الجميع لسعادة الجميع. لذا نحن لسنا في حاجة إلى حكام ، فالحاكم يمكن اقتراضه أو شراؤه والإتيان به كخبير ينفذ ما يطلب منه ثم ينصرف. نحن يا أخي في حاجة إلى مُربّين لا إلى حكام ، مربين يشعرون بما يحسه كل فرد في المجموعة ، فيتصرَّفون بكل ما سبق من خصال وصفات المربي ، فلا الحاكم عنجهيّ ، ولا المحكوم في ذلة ، بل الجميع يتآزرون ويتعاونون لنفس الغاية والهدف. أمّا السؤال الآن فهو: هل نجد من بيننا المربين الأكفاء ؟ إنّ ما عرفته حتى الآن هو أن البلاد لم تفتقر في الماضي كفاءات ، رجالا ولا نساء ، فلا أظن أنها تفتقر اليوم. على الشعب وعليه وحده أن يجدهم فينتقيهم. مدريد في 24-9-2018