يقول الشيخ الحبيب المستاوي (ولدت نساء العالمين منذ أن اقترنت حواء بآدم آلاف الأفذاذ و العظماء الذين بدلوا مجرى التاريخ و حققوا لأممهم بعض ما تطمح إليه في دنيا المادة و الروح على حد السواء : و ظفر كثيرا من أولئك الأفذاذ بما هم جديرون به من اعتزاز و تخليد و مر كثير آخر مرور الطيف السريع أو الومضة الخاطفة فلم تعرهم الحياة و لا أبناء الحياة لفتة أو وقفة تمكنهم من إسداء الخير و إنماء حصيلته و إثراء حقوله . و إنه لمن الإنصاف البعيد عن التعصب و المرتكز على الأدلة المنطقية و العقلية أن نقول بدون تلجلج و لا تلعثم . أن الرجل الوحيد الذي توفرت لديه جميع أسباب الخلود و الذي قدم لهذه الإنسانية الحائرة أعظم زاد فكري و روحي و مادي بما جمع بين أيديها مما يفتقر إليه الإنسان من توجيهات ربه في شؤون معاشه و معاده و يسره و عسره و تقدمه و تخلفه و فرديته و اجتماعيته بل و في سلمه و حربه و في الأنظمة التي يساس بها الأحكام التي تسلط عليه في حالات الشذوذ و النشاز فتصلحه و لا يصلحه سواها قلت أن ذلك الرجل الوحيد هو محمد ابن عبد الله صلى الله عليه و سلم فهو الذي حظي من لدن المبدع الحكيم بالرسالة الشاملة الخالدة و بالدين الذي ورث الأديان كلها واستوعب جميع ما اشتملت عليه من إصلاح و توجيه ، فلا غرو إذن أن يكون سيد العالمين و إن يعتبر الذين فتحت بصائرهم شريعته الغراء أن ذلك اليوم الذي ولد فيه أشرف أيام الدهر و هو اليوم الحقيقي لميلاد الإنسانية المثلى ، و الفضائل الخالدة و الأنوار المشعة وهو بحق يوم الرحمة الربانية الغامرة الشاملة تلك الرحمة التي أجلت إلى الأبد عن هذا الكون و الكائن مظاهر المسخ و الإبادة الجماعية مما كان يتهدد أية أمة عتت عن أمر ربها ، واتخذت آياته ورسله هزؤوا وهو اليوم الذي أقيمت فيه الإنسانية الحجة المبكتة بما جمع بين يديه من أجوبة عن كل سؤال و أدوية لكل علة . و حلول لكل معضلة . فإذا ما هفت أرواح المؤمنين إلى تنسم عبير الهدى المحمدي من أردان أول الربيعين من كل سنة فلان ذلك اليوم يعتبر لديهم يوم الخلق الحقيقي أو يوم اكتشافهم لأنفسهم و ظفرهم بمفاتيح الطلاسم المعقدة في خباياهم و طوياهم و ذلك لعمري هو بدء السعادة و لباب ثمارها و زبدة مخيضها. إن دين الرسالة المحمدية على أتباعها لثقيل . و إن قدرها لدى العارفين بها لعظيم و جليل . إنها لتلك الرسالة التي تفتح لها و عليها قلوب السابقين و الأولين من المهاجرين و الأنصار فأصبحت إكسير حياتهم و غذاء أفئدتهم و أرواحهم واعتصموا بها فاعتصمت بهم . و فدوها بأفئدتهم .و رفعوها فارتفعت بهم إلى حيث ينتهي الطموح و تتهاوى المراتب البشرية العادية . لقد أدخلتهم جنان الخلد قبل أن يغادروا قبل أن يغادروا دنيا الفتون و الشرور . و جعلتهم في أقل من ربع قرن أيمة و جعلتهم الوارثين إنها لتعطي للمتعلقين بها أكثر مما تأخذ منهم و تعطيهم الفوز و السعادة و الازدهار و تعطيهم الطمأنينة و الطهر و النماء و الاستقرار و لا تأخذ منهم مقابل ذلك إلا أن يذودوا عن قلوبهم و أبدانهم و طفيليات الشر و جراثيم الفساد و أن يلزموا أنفسهم كلمة التقوى التي ليسوا أجنبيين عنها و ليست أجنبية عنهم فلقد (كانوا أحق بها و أهلها) و سيبقون كذلك إلى أن يأذن الله لهذا الكوكب بالزوال و الأفول . و ما تلك التكاليف التي أناطها التشريع الإسلامي بعهدتهم إلا أسباب بسيطة سهلة شرعت لتحقيق تلك الغاية البعيدة المنال و بدونها سوف تبقى رغم كل الأنوف محض جنون و خيال . إن احتفال المسلمين بميلاد محمد عليه السلام لأبعد و أعمق من أن يكون موائد أو شموعا أو شماريخ أو خطبا رنانة أو قصائد عصماء، إنه التجديد للعهود و الصقل للبواطن و العمل الدائب الرصين لإنقاذ البشرية مما تردت فيه من وثنيات ما عرفها الإنسان البدائي في عصور ظلامه وانحطاطه . إنه المصارحة الصادقة الجريئة للنفس و للقوم بما أصبح يفصلنا و يبعدنا عن تلك المعية التي جعلها القرآن شرطا لبلوغ إغاظة الكافرين و مغفرة الذنوب و إجزال الأجر حيث قال : ( محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم على وجوههم من أثر السجود ..) . صدق الله العظيم .