للأسبوع الثالث على التوالي تعرف فرنسا احتجاجات اجتماعية عارمة شبيهة بتلك التي حصلت في باريس في ربيع سنة 1968 ومعها يتواصل غضب جموع غفيرة من الفرنسيين من المرتدين لسترات صفراء ترمز لوجود عطب اجتماعي على الدولة أن تنتبه إليه ومأزق كبير يهم حياة المواطنين يحتاج من الحكومة أن تتدخل لمعالجته قبل أن يتفاقم أكثر . احتجاجات أصحاب السترات الصفراء تتواصل بقوة وهي في اتساع كبير بعد أن عرفت تطورات غير منتظرة جعلت سقف المطالب يرتفع ويتمدد فبعد أن كانت الاحتجاجات في البداية ضد الزيادة في الضرائب على المحروقات وتنديدا بسياسة الضرائب التي ارهقت عموم الشعب الفرنسي وجعلت حياته ومعيشته صعبة ومرهقة جراء قصور الرواتب والأجور على مجاراة نسق الغلاء في المعيشة وارتفاع الأسعار ، تحولت إلى التنديد بتراجع المقدرة الشرائية للمواطنين وتنديدا بالسياسة الاجتماعية التي تتبعها الحكومة والتي اتضح اليوم أنها سياسة غير مريحة للشعب ولا تساعده على العيش في أمن اجتماعي وغير قادرة على توفير الحياة الكريمة. ما يقلق في الاحتجاجات الفرنسية ليس في خروج الفرنسيين إلى الشوارع محتجين ضد السياسة الاجتماعية للحكومة الفرنسية وإنما المقلق في عدم اكتراث الدولة والقائمين على الشأن العام بشواغل المحتجين وعدم استجابة رئيس الدولة لما يطالبون به وهي مطالب يقول عنها المتابعون أنها مشروعة حيث أثبت سبر للآراء أجري منذ أيام أن 75% من الفرنسيين يساندون احتجاجات السترات الصفراء وأن 50% منهم يشاركون في هذه الاحتجاجات و 25% متعاطفون مع التحركات ولكنهم لا يشاركون في التحرك الاحتجاجي الميداني بما يعني أن المطالب الاحتجاجية هي مشغل يهم كل الفرنسيين . الأزمة اليوم هي في تأخر إجابة الحكومة وتعنتها ورفضها التراجع عن قراراتها التي أججت الشارع الفرنسي والتي اتضح أنها تلقى معارضة شعبية واسعة. المشكل في عجز الدولة وفشلها في اقناع الشعب بأن الزيادة في الضرائب ضروري لاحتواء الأزمة الخطيرة التي تعصف بصورة فرنسا البلد الديمقراطي وبلد الحريات والرعاية الاجتماعية وحقوق الإنسان. اليوم صورة فرنسا في الميزان ووضعها في خطر بعد إصرار المحتجين على مواصلة تحركاتهم وعزمهم الترفيع في سقف المطالب التي وصلت اليوم إلى حد مطالبة الرئيس إيمنوال ماكرون بالرحيل والاستقالة وتحميله المسؤولية فيما آلت إليه أوضاعهم من ترد ومن تراجع لوضعهم المالي ومقدرتهم الشرائية. الأمر المفاجئ اليوم بعد هذه الاحتجاجات هو في الحقيقة التي وضحت والتي أبرزت أن الشعوب الأوروبية ومنها الشعب الفرنسي ليس في أفضل حال ولا كما يصوره لنا الاعلام في مشاهد جميلة من حيث الشعور بالأمن الاجتماعي والرفاهية و ما يتوفر له من امكانيات مادية لحياة كريمة وحياة سعيدة لنقف على حقيقة مختلفة تماما عما كنا نعتقده بخصوص هذه الشعوب التي كنا نراها سعيدة ومرفهة هذه الحقيقة هي أن الفرنسيين ومعهم غالبية الشعوب الأوروبية – إذا استثنينا ألمانيا تقريبا - تعيش ظروفا اجتماعية صعبة وهي شعوب مرهقة بالضرائب المرتفعة ومتعبة في عيشها ومهددة في حياتها جراء سياسات رأسمالية لا تراعي الفقراء ولا تخدم الطبقات الضعيفة ونتيجة برامج اقتصادية لا تخدم إلا الأغنياء وأصحاب المال والمشاريع ولا تفكر في عموم الشعب بعد تفاقم حالات البطالة التي وصلت في فرنسا وحدها إلى مستويات قاربت 10% وهي نسبة يعتبرها المراقبون مرتفعة في بلد من المفروض أن ينتج العمل وفي ظل حكومة وعدت بتوفير مواطن شغل للعاطلين ومع رئيس وعد في حملته الانتخابية بتوفير الشغل للجميع حينما رفع شعاره الشهير" فرنسا إلى الأمام " المشكل في هذه الاحتجاجات وما ترتب عنها من تداعيات خطيرة بعد تصاعد مشاعر الغضب والاحتقان في صفوف المحتجين هو أن الرئيس ماكرون على ما يبدو لا يصغي جيدا إلى ما يقول له شعبه ولا يستمع بما فيه الكفاية إلى مطالب المحتجين الذين يقولون إننا لم نعد نقدر على دفع المزيد من الضرائب ويصعب علينا مسايرة الارتفاع المتزايد للأسعار ونطالب بتحسين المقدرة الشرائية التي تحول بيننا وبين العيش وتحقق الأمن الاجتماعي حتى نكون سعداء في حياتنا .. المشكل أن الجموع يتحدثون إلى رئيسهم بكل هذا ويتوجهون إليه بكلام عن مخاطر تحاصرهم في آخر كل شهر حينما تنفد أجورهم ورواتهم ولا يجدون في جيوبهم ما يعيشون به في مقابل ذلك هو يحدثهم عن مخاطر نهاية السنة وعن أهمية الانتقال البيئي المبرمج في سنة 2020 وعن مخاطر استنشاق الهواء الملوث وعن برنامجه لحماية الأجيال المقبلة من خلال ضمان الانتقال إلى مصادر طاقة أقل تلوثا وعن ضرورة التخلي عن الطاقة التقليدية من نفط وغاز وفحم وعزمه غلق جميع مناجم الفحم الحجري والذهاب نحو الطاقة البديلة واستخدام الغاز الحيوي والطاقة الهيدرولوجية و التعويل على الطاقة الشمسية للحصول على الكهرباء لتشغيل المصانع والإنارة في المنازل والشوارع . المشكل أن الشعب ورئيسه كل في واد يتحدث لغة وخطابا مختلفا وهذا ما يجعل من الرئيس ماكرون لا يصغي إلى شعبه و يجيب المحتجين عن مطالبهم بلغة وخطاب مختلفين عن لغتهم وخطابهم إنهم يحدثونه عن غلاء أسعار الوقود ورفضهم الزيادة في ضرائب المحروقات وهو يحدثهم عن ضرورة الانتقال البيئي وتبني سياسة طاقية بديلة .. هم يحدثونه عن مخاطر نهاية الشهر حينما تنفد النقود التي في الجيوب وهو يحدثهم عن مخاطر نهاية لسنة وكيف يمكن أن نضمن مناخا وبيئة غير ملوثة بعد ضمان الانتقال الطاقي السليم. إن الدرس البليغ الذي نتعلمه من احتجاجات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا والتي انتقلت عدواها إلى بلجيكا وهولندا وربما إيطاليا هو أن الرئيس حينما لا يصغي جيدا إلى ما يقوله شعبه وأن الحاكم حينما يجيب الناس عن سؤالهم الاجتماعي الآني والملح بجواب لا يراعي هواجسهم وتخوفاتهم وبخطاب يتجاهل المطالب الحياتية اليومية وبجواب يتحدث فيه عن المستقبل والمآلات البعيدة حينها فلننتظر من هذا الشعب أن يفعل أي شيء من أجل ضمان حياته وأن يتصرف بجنون وعنف دفاعا عن حقه في العيش وحق عائلته مهما بلغت درجة تحضره وتمدنه ومهما تشبع بقيم وثقافة الديمقراطية الغربية التي يتشدقون بها .