في مثل هذا اليوم من سنة 1939 ولد حمادي الصيد بتونس، هذا الرجل كان بالنسبة لجيلي بمثابة ظاهرة صوتية ليس في المعنى المتداول اليوم بل في المعنى النبيل للعبارة فلقد اختار منذ عودته من الولاياتالمتحدة حيث زاول تعليمه العالي أن يصول ويجول في أروقة ذلك المربع الناصع في شارع الحرية عدد 71 مبنى الإذاعة التونسية فكانت البرامج ذات الطابع الهادف أي التي يمتزج فيها الجد بالهزل من نوع المسابقات والحصص التنويرية مثل في "مهب الموسيقى" وسلوى البعيد" التي يكشف خلالها سي حمادي أهواء ضيوفه من قادة الرأي والأدب والفن في بلادنا وميولاتهم في شتى الأغراض، ثم تدرّج الصيد في تلك الدار إلى أن أصبح مستشارا لدى إدارتها العامة من سنة 1968 إلى سنة 1971 إلى أن انتقل من الظاهرة الصوتية إلى ظاهرة ضوئية بفعل ترأسّه للشركة التونسية للإنتاج السينمائي ولم يكن غريبا عنها من قبلُ إذ أنه كان هو الصوت الملازم للصورة في كل الأشرطة الإعلامية أو ما يطلق عليه بلغة الإفرنج Actualités Tunisiennes وقد كان أعد لنفس الشركة عدة أفلام قصيرة من بينها عمار فرحات سنة 1963 والمعركة الكبرى في نفس السنة وثلاث مدن تونسية سنة 1966 وعدّة أعمال أخرى تحت أسماء مستعارة كمحمد لطفي ومحمد الهادي ومحمد ياسين، كما أنه يُحسب لحمادي الصيد تأسيس خزينة السينما Cinémathèque وترأسّه لأيام قرطاج السينمائية عام 1978. يقول عنه الناقد الصديق عبد الكريم قابوس:"هو مستهلك للصور حتى أعمق ما في النظرات وهو قادر على أن يعيد إلى مخيلتنا موسيقى لاعبي الشطرنج للهندي رأي أو مشهد قنال سان مرتان في شريط فندق الشمال أو أن يحيي لوحة من شريط يوسف شاهين" كان يجيد التخاطب بلغة الجاحظ ولغة موليار ولغة شكسبير. كان يردد "وخاطب الناس بما يفهمون" الصوت الحسن والعدسة البراقة ثم القلم. لقد شغف الصيد بالكتابة والنشر فلقد شارك سنة 1963 إلى جانب الراحل محمد بن إسماعيل في بعث مؤسسة CERES ثم أسّس من بعد ذلك وقبل ارتحاله بقليل مجلة Confluences في فرنسا عام 1991 إذ صدر العدد الأوّل أياما قبل وفاته. صدر له في حياته كتاب " حقيقتان وجها لوجه" Deux vérités en face وهو عبارة عن تسجيل حواراته مع Théo Klein ثم صدر بعد التحاقه بالرفيق الأعلى كتابان Chronique du monde arabe ،L'Harmatan عام 1991 بباريس و Questions aux arabes et aux autres عن دار بن عبد الله عام 1992 وهذا الكتاب يحتوي على تصدير للوزير الفرنسي السابق Michel Jobert (1921-2002) جاء فيه بالخصوص :"لقد ارتحل صديقنا عندما كنا في أشدّ الحاجة إليه ولعلنا نلومه على هذا الفعل طالما أنّ مكانه أصبح شاغرا فالفكر معطّل والتعبير صامت. كم كنّا نود إيقاظه وإعادته إلى الحياة لكي يزعزع لفائدتنا حصن احتجاجاتنا ضد الظلم". ونستشفّ من هذه الكلمات التي تفطر حبّا وأسى في آنّ مدى الفراغ الذي تركه حمادي الصيد رجل الدفاع عن قضايا الحق، قضايا الإنسانية أينما وجدت وهو في نفس الوقت رجل الحوار بين الفرقاء في مجالات الدين والثقافة والسياسة. والسياسة بالأساس فصاحبنا اكتوى هو أيضا بنارها مند أن أصطفاه الأستاذ الشاذلي القليبي الأمين العام لجامعة الدول العربية لتمثيله في بيروت أيّام الحرب الأهلية ذلك الأتون الذي لم يخمد إلا بعد ضناء وعناء، ولقد نجح الصيد بشهادة الشاعر الكوني أدونيس الذي كان يراقب الأحداث في بلاد الشام : "إنّ الحوار بالنسبة لحمادي الصيد ليس مجرد تقارب بين الفرقاء بل هو بالأساس سبيل نحو التحالف". كتب الصيد في افتتاحية العدد الأول من Confluences تحت عنوان " تجاوز مظاهر سوء التفاهم " : إنّ تبادل الآراء والتفكير المشترك إنّما هما من بين الوسائل المتحضرة والناجعة إلى حل الأزمات والصراعات" لقد غادر الصيد لبنان متوجها بمثل خطته نحو بلدان أمريكا اللاتينية ثم في سنة 1983 التحق بمنظمة اليونسكو في باريس أولا كملاحظ قار للجامعة العربية، ثم سنة 1986 كسفير لديها ثم واصل ببناية الدائرة السابعة بباريس ولكن كسفير هذه المرّة للجمهورية التونسية وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته يوم 27 نوفمبر 1991. لقد غادرنا سي حمّادي ولكن طيفه ظل ملتصقا بأستوديوهات الإذاعة حين كان يستقبلنا بطلعته البهية ونحن تلامذة بالمدرسة الصادقية للمشاركة في إحدى حصصه كما أنّ روحه سوف ترفرف في كل الأماكن التي برع فيها بالصوت والصورة في كل المناظرات التلفزية. ولسوف يبقى حيّا من خلال الساعة الناطقة :"عند الإشارة تكون الساعة ". لحمادي الصيد رجل فذّ وعلامة فارقة في مجال الاتصال يقول " Jobert " من ذا الذي سوف يحمل بعد هذا الرجل مشعل الذود عن قضية العرب ؟ ". من؟.