مع عودة التحكيم الأجنبي.. تعيينات حكام الجولة 5 "بلاي أوف" الرابطة الاولى    استقالة متحدثة من الخارجية الأميركية احتجاجا على حرب غزة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    ماذا في لقاء سعيد برئيسة اللجنة الوطنية الصلح الجزائي..؟    أخبار المال والأعمال    سليانة .. رئس الاتحاد الجهوي للفلاحة ...الثروة الغابية تقضي على البطالة وتجلب العملة الصعبة    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    «الشروق» ترصد فاجعة قُبالة سواحل المنستير والمهدية انتشال 5 جُثث، إنقاذ 5 بحّارة والبحث عن مفقود    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    لدى لقائه فتحي النوري.. سعيد يؤكد ان معاملاتنا مع المؤسسات المالية العالمية لابد ان يتنزل في اختياراتنا الوطنية    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    حركة النهضة تصدر بيان هام..    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    وزير الشباب والرياضة يستقبل اعضاء فريق مولدية بوسالم    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عدت الى وطني بفكر نقدي وبحس من المواطنة مرهف
خميس الخيّاطي ل «منارات»: حاوره ابراهيم خصومة
نشر في الشعب يوم 10 - 03 - 2007

في كتابه الجديد «تسريب الرمل: الخطاب السلفي في الفضائيات العربية» اختار خميس الخياطي رصد واقتناص الصور التلفزية العربية بعين ثالثة واضعا إياها على محك التشريح لمقاومة السلفية التلفزية.
رافضا للجمود والتقوقع والانكفاء متسلحا بما تزود من تكوين اكاديمي في علم الاجتماع بعد نيله لشهادة الدكتورا اقتحم خميس الخياطي الفضاء السمعي البصري في فرنسا لينحت هناك بإقتدار كبير مسيرته الشخصية الطافحة بالنجاحات في مرحلة الهجرة التي امتدت على مدى 35 عاما.
والى ذات المكان الذي كان شاهدا على انطلاق رحلته عاد الخياطي منذ عقد باحلام كبيرة وطموحات لا تنتهي رغبة منه في فتح آفاق اخرى!!! ولكن بين الحلم والواقع مسافة تسربت منها اشياء بدلت الوجوه وحتى المواقع والقناعات.
حول كتابه الجديد ومسيرته في الحقل السمعي البصري كتابة وتدخلا وتنشيطا سواء في المهجر، أو داخل الوطن، كان الحوار التالي:
بداية، ماذا نقول؟
أقول إن كانت الكتب السماوية تستهل خطابها ب»في البدء كانت الكلمة»، أستهل حوارنا ب»في البدء كانت الصورة والصوت»... سلسلة من الصور ما زالت عالقة بذهني حتى هذه الساعة تصاحبها أصوات مثل صور الثلج على سطح دارنا بالصور بالشمال الغربي يصاحبه صوت الريح يلاعب القرميد وعواء الكلاب بحثا عن مأوى وحثيث الأقدام على الثلج المبتل الذي لا يصمد طويلا أمام غربال الجدة التي تزيحه جانبا... في الربيع، صورة الجدة وهي تتوضأ مع مزج بين صوت أساورها وصوت القرآن المنبعث من الراديو وصوت خلخال الوالدة الآتية من «الحوش» وحركة السنونو (الخطيفة) التي تود الخروج من البيت... هي صور اشبه بما أتخيله عن الجنة المفقودة، جنة طبيعية، لا أكتاف فيها ولا محسوبية... عائلة بسيطة ليست بالغنية ولا بالفقيرة، قائمة على موروث قيمي زراعي نقتاته من القص الشفوي حين تاتي عجوزا لتقص علينا حكايات الغيلة والعبابيث او السرد المخطوط حينما يقرأ لنا عجوز قصص ألف ليلة وليلة وسيف بني ذي يزن وحمزة البهلوان وغيرهم كثير في كتب صفراء، إضافة إلى حفظ القرآن في الكتاب البعيد عند خروج الراعي بماشيته، أي في ساعة مبكرة من الصباح مهما كان الفصل ومهما كانت درجة الحرارة وأنا محمل قطعة كسرة عليها غبار من السكر، إنه فطور الصباح... هذه البدايات مع ظهور الراديو اثرت مخيالي في قرية لم تعرف من الغرباء عنها ومن الأجانب ومن الإستعمار إلا مدير المدرسة الإبتدائية وعائلته وقد أحبهم الأهل لحد منع «الفلاقة» المس بهم، وبالمقابل، اندمجوا مع الأهل لحد أنهم يأخذون الشمع إلى الولي الصالح «سيدي منصور»... مع هذه العائلة الفرنسية وحينما كنت أقضي خطية ما لفعل ما سيء، كنت أستمع إلى أصوات «تصرخ» وأخرى «تصيح» ولم استضغها. وعلمت في ما بعد أنها أوبرا ل»موزارت» وعملت على تعلم حسن الإستماع إلى هذا الفن... قلت، كنا نلعب مع إبني هذا المدير المسيحي، خريج الجمهورية الثالثة والذي لم يخف عليهما من المسلمين لا سيما والحالة العامة في الإيالة تميل إلى النضال المسلح ضد المستعمرين. مثل هذا التسامح القاعدي انطبع في مخيلتي وجعلني أؤمن أيمانا قاطعا أن الإنسان أنسان حيثما وجد. وقد تذكرت ذلك مرة حينما رأيت فلاحا قاعديا فرنسيا في شمال فرنسا وهو جالس ارضا مسندا ظهره لحائط محطة الأرتال، يقتطع لنفسه قطعة من الكسرة... فرأيت والدي يفعل شيئا من هذا...
في هذا الفضاء، كيف انطلقت العلاقة بين خميس الخياطي والصورة؟
لم أكتشف أن إسمي «خميس الخياطي» إلا عندما دخلت مدرسة «الدولة»، لأن الإسم المتداول في العائلة والقرية هو «إبراهيم الباشي»... قيل لي فيما بعد أن الفلاحة يستعملون مثل هذه الحيل حتى لا يأخذ الموت أبنائهم... هو إعتقاد نجده في حضارات زراعية أخرى...إضافة لكون كل عائلة الخياطي/الباشي يحذقون الرسم ويعرفون الإيقاع (الدربوكة)، كانت جدران منزلنا مزدانة بعديد الصور سواء صور مكة والمدينة أو صور المنصف باي إضافة لرسومات على البلور تمثل «سيدنا علي وراس الغول» أو «عزيزة ويونس» أو كذلك «نساء شبه عاريات يستحممن» (على الطريقة الإغريقية...) ناهيك عما كان موجودا بالرزنامات وغيرها والكتب التي كانت موجودة في الدار، لأن أخوالي الثلاثة دخلوا المدرسة الإبتدائية (مع المدير الذي حدثتك عنه آنفا) ومنهم من أتم الثانوية في ذاك الزمان... كان إخوالي يجمعون مجلات مصورة بالعربية (مصرية تحديدا) وبالفرنسية (إوستراسيون). وحتى لا ألعب في الحومة في «غرغور القايلة» وحتى «لا يأخذني السحار المغربي ليستخرج الكنوز بدمي» خاصة وحاجبايا متصلان، كان الأهل يمدوني بالمجلات حتى أبقى في الحوش... من هذا الحجز أحببت المطالعة، إذ أخذني مرة خالي وأجبرني على قراءة «مأسي صوفي» للكونتيسة دي سيغور... قرات ومن يومها لم أكف عن القراءة... وفي المرحلة الثانوية بمبيت المعهد المختلط بالكاف، كنت دائما أول الصف في مادة الرسم وكان التلاميذ، مع نهاية العام الدراسي، يقطعون لحاف أسرتهم حتى أنقل عليها (!) لوحات «رونوار» و»سيزان» و»فان غوخ» وغيرهم... تخيل أني اطلعت على رسومات «جيروم بوش...» تعلمت في سن الثالثة عشرة تقريبا كل الفن التشكيلي الإنطباعي الفرنسي والتعبيري الألماني وكنت أحلم بدخول مدرسة الفنون الجميلة. إلا أن الوالد ما كان يفرق بين «الدهان» و»الفنان التشكيلي»، فإختار عند التوجيه أن أدخل مدرسة ترشيح المعلمين، على الأقل، المستقبل مضمون والراتب كذلك. ولعبت اللعبة وأتممت دراستي في ترشيح المعلمين، ودرست لمدة سنة بحي الزياتين و»فصعت» من التعليم لأخوض تجربة علم الإجتماع المطبق على السينما والصحافة المختصة في السينما... بمعنى آخر مررت من الصورة الثابتة إلى الصورة المتحركة.
كيف أمكن لهذا القادم من الشمال الغربي أن يتأقلم مع الحياة الجديدة بالعاصمة؟
من المعهد الثانوي بالكاف وتتمته معهد «ستيفان بيشون» ببنزرت، تعلمت شيئان أولهما الصداقة وثانيهما السينما إضافة إلى تطور رغبتي في المطالعة، مطالعة أي شيء يقع تحت يدايا... القراءة كانت الوسيلة الوحيدة للحرية في مبيت لا تتركه إلا عشية السبت ويوم الأحد، هذا إذا لم تحرم منهما لسبب تجهله... الصداقة جعلتني أكتشف أن حدود الدنيا ليست القصور ولا حتى الدهماني، بل هناك الفحص والمجاز وتالة وتاجروين وغيرها من المدن والقرى... علاقات نمت في رحاب المبيت بين من يحفظ قاموس الجيب الفرنسي ومن يحفظ تاريخ الجيش الثالث الألماني ومن قرأ كامل روايات إميل زولا في ال «تواليت» بعد أن يكون الجميع قد ناموا. شخصيا، ركبت خطا كهربائيا (بطرية جيب) داخل الفراش وشددته بالمساسيك حتى أقرا الروايات طيلة الليل، كل الروايات من البليدة حتى الإروطيقية حتى الكلاسيكية... فتكون زاد معرفي ولغوي إكتشفت قيمته حينما عملت بإذاعة «فرنسا الثقافية...» أما السينما، فقد كانت الملجأ الآخر سواء في قاعتي السينما (باتي وسيرتا) أو في نوادي السينما . فكنت مع صديقين نتباري في حفظ عناوين الأفلام الأمريكية والفرنسية، المصرية والهندية التي نشاهد... حينما دخلت تونس، دخلتها مثل «راستينياك...» نوادي السينما أولا، فالدراسة الجامعية ثم امتهان الصحافة من باب التصحيح اللغوي في جريدة «لاكسيون»، لسان حال الحزب الإشتراكي الدستوري فالتسكع مع تعاطي المخدرات الكيميائية كإمتداد لكتابة الشعر بالفرنسية... لم أدخل تونس متخاذلا أو طامعا بل من موقع»الآفاقي»(جماعة «هام جو») الذي يريد أن يجد له مكانا تحت شمس العاصمة وبقوة الذراع أو في الحقيقة قوة الدماغ. لغة عربية أصيلة لقنها لنا إبن محمد الحليوي مشكورا، الفلسفة الماركسية التي فتح لنا أبوابها أستاذنا محمد الكراي ببنزرت حيث كان في الإقامة الجبرية جراء إنتماءه للحزب الشيوعي ولغة فرنسية تلقيناها من مجموعة من الأساتذة الفرنسيين الأصيلين... هي أسلحة موجودة عندي حتى هذه الساعة...
دخلت العاصمة وهي تعيش بقايا التقلبات السياسية وتركتها وهي على أهبة عيش تقلبات أخرى، كيف تعاملت مع هذه المعطيات؟
المسائل السياسوية لم تكن ديدني. همي كان الشعر باللغة الفرنسية ومن أهم الشعراء الذين كنت أعشقهم السوفيتي «ماياكوفسكي»، الفرنسيين «ريفار» و»بودلير» و»إلويار» و»لوتريامون» وتاجر الاسلحة، «أرتور رامبو...» كنت والشاعر المنصف غشام نتباري شعريا حول وجودنا بالجامعة ودراستي الجامعية أقوم بها كمن يقوم بواجب لا غير، حتى أنني مرة رفضت الإجابة عن أسئلة أعرف أجوبتها وذلك نكاية في أستاذي عبد الوهاب بوحديبة الذي لم أتحمل مرة واحدة تعامله معنا كأننا أطفال رضع... الحركة غبية ولكنها لم تحصل مثلا مع «ميشيل فوكو» ولا مع أي أستاذ آخر... بالتالي، السياسة لا تهمني. همي المطالعة والكتابة والعربدة والثورة بأسلوب غير حزبي. ويوم سئمت من العمل الصحفي وجدال نوادي السينما حيث قص الشعرة إلى عشرين، قلقت من الجامعة ورفضت رفضا باتا التعليم، قدمت استقالتي من الجريدة ورحت مع صديق هو اليوم أستاذ مادة علم النفس بجامعة «جونيف»(سويسرا) أجوب شارع الحبيب طولا وعرضا إلى أن لاقاني مرة أستاذي الفرنسي بالجامعة التونسية فأهداني قهوة من مقهى باريس ونصحني بترك البلاد... وفعلا، هو ما أقدمت عليه يوم 23 جويلية 1969 وبيدي حقيبة صغيرة بها بيجاما زرقاء، ثلاثة كتب هي «مجتمع الفرجة» ل «قي دوبور»، «منهاج فقدان الأمل» للفيلسوف»كيركغارد» وكتاب «قصص مالدورور» ل «لوتريامون...» ثلاثة أشهر بعد هجرتي، أطيح بالتجربة الإشتراكية وأعتقد لحد هذه الساعة أن الإطاحة ببن صالح كانت من باب الغدر وليس من باب السياسة. تلك التجربة مهمة على أكثر من صعيد أهمها قلب المجتمع التونسي رأسا على عقب. ورغم بعض المآخذ على سلوك بن صالح الشخصي أزاء من كان بإمكانهم أن يكونوا الدرع الحامي ، وأعني اليسار التونسي وخاصة الحزب الشيوعي ، فإني أرى في الإطاحة بها خسارة فادحة. وحينما كنت بباريس مع صداقات بمن أسسوا حزب الوحدة الشعبية، كان شرط إنضوائي في الحزب هو أن يقوم بن صالح بنقده الذاتي حتى لا نتحمل أخطاءه، رفض بن صالح النقد الذاتي ولم أنتم أنا للحزب رغم علاقات الصداقة التي كانت تربطني بعديد مؤسسية.
في فرنسا، كانت لك تجربة ثرية ومختلفة، أليس كذلك؟
في فرنسا ولدت مرة ثانية. على الصعيد الجامعي، وجدت في جامعة «نانتير» أساتذة منهم «جان بودريار» والتونسي «ألبير ممي» و»جان روش» و»أنريكو فولكينيوني» وغيرهم ممن لم يكونوا أساتذة، بل زملاء. أحدهم، وهو «فولكينيوني» أصبحت زميله في إذاعة فرنسا الثقافية... وبالتالي أنهيت الماجستير في سنتين وكانت رسالتي حول «القصة القصيرة والنهج الإشتراكي في «مجلة الفكر». حصلت على الماجستير في علم إجتماع الأدب من «نانتير» وعلى الليسانس في الأدب واللغة العربية من «السوربون الجديدة» حيث من الأساتذه «أندري ميكيل»، «أرنالديز»، «كلود كاهين»، «راشيل أريي»، «ندى طوميش» و»محمد أركون»... وسجلت في المدرسة العليا للدراسات التطبيقية في قسم علم الإجتماع مع الدكتور أنور عبد الملك لأنجاز رسالة الدكتورا حول «الشعور القومي في أفلام صلاح أبوسيف»... وهي عودة إلى الصورة وإلى الأفلام التي شاهدتها في قاعة «سيرتا» بالكاف...
من جهة كان هناك الجانب التونسي، أولا مع الأصدقاء ومنهم رضا الباهي والمرحوم الحبيب المسروقي ومحمد إدريس والفاضل الجعايبي، إلخ... ثم دائرة النشطين السياسيين وأذكر تحديدا المرحوم حمادي الصيد الذي ساعدني كثيرا في دراسة إمكانية إصدار أسبوعية فرنسية عربية المنحى وعنوانها «زمن الكرز»( أغنية من ال «كومونة») وكذلك الراحل نور الدين بوعروج أو محسن التومي وغيرهما. هناك الجانب العربي وقد أصبح ذا تأثير خاصة مع إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية وقدوم موجة من المثقفين من الطراز الرفيع مثل جورج قرم أو برهان غليون. هذا الجانب العربي، بمحض عملي في الإذاعة الفرنسية، تطور بصفة ملحوظة حيث كنت في برنامج «بانوراما» أغطي الأنشطة الثقافية العربية التي تحدث إما في فرنسا أو خارجها هذا علاوة عن تغطية الأفلام التي تعرض أسبوعيا في قاعات السينما وبالتالي تعرفت عن كثب على عديد العلامات الثقافية العربية وحاورتها للإذاعة مثل الجزائريين رشيد بوجدرة ورشيد ميموني وأسيا جبار والمغاربة الطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي ومحمد خير الدين وغيرهم. هذا من المغرب. من المشرق، إهتمامي كان فلسطينيا في الأساس إذ في 1976 أصدرت مع الراحل «غي هينوبيل» أول كتاب عن «فلسطين في السينما»، فعرفت مجمل من تناول المسألة الفلسطينية من بعيد أو قريب، عربي كان أو أعجمي... وهو ما جعلني وقد كنت عضوا في لجنة إختيار الأفلام لأسبوع النقاد بمهرجان كان أختار مرة فيلما إسرائيليا وهو «إستير» لعاموس غيتاي ليعرض في كان وذلك في حالة عدم وجود إنتاج عربي يليق بالتظاهرة... وكانت الطامة واتهمت بالخيانة والعمالة وأني أتقاضى أموالا من شركة «كانون» الأمريكية/الإسرائيلية إلخ... من الترهات التي نحذقها نحن العرب في أزمنة الأزمات... واتهمت بالخيانة مرة أخرى عند سفري إلى فلسطين في العام 1992 بدعوة من فلسطيني الداخل(المرحوم فيصل الحسيني وحنان عشراوي). وقبل سفري أدليت بحديث لإذاعة الشرق أبين فيها موقفي ثم سألت السيد الحبيب بولعراس وقد كان رئيسا للبرلمان التونسي عن موقف الحكومة من مبادرتي فأجابني: «لن نقول شيئا إذا لم تقل منظمة التحرير شيئا». لم تقل منظمة التحرير شيئا حتى وإن نصحني محمود درويش بعدم السفر، بل أصدقاء الماضي إتهموني ومنهم المرحوم جوزيف سماحة (الحياة) وبيار أبي صعب (الوسط) أو نبيل مغربي الذي عملت معه في الأعداد الأولى من «الوطن العربي» في العام 1975، كلهم خونوني ومنهم من طالب الحكومة التونسية سحب الجنسية مني... زرت القدس وكتبت عن ذلك في «الحياة» لأني لا أقوم بالأشياء خفية.
وبالتالي تعرفت عن كثب على الراحلين جبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي. الأول عند زياراته المتعددة لفرنسا وكنت آخذه إلى السينما لأريه جديدها، أما الثاني، فقد قضيت يوما معه في القدس، يوم الإحتفاء بالمفكر الإسرائيلي «ياهوشفاع» وكان ذلك في خزينة الأفلام الإسرائيلية التي كانت في السابق منزلا فلسطينيا مطلا على حدود 67 ، ناهيك عن سميح القاسم وليانة بدر. ولا يمكن أن أنسى عبد الرحمن منيف والطيب الصالح وجمال الغيطاني وآخرون من الوطن العربي الذي أصبح طيلة وجودي بفرنسا، الذحيرة التي منها أشرب يوميا. الجانب الأوروبي مليئ هو الآخر باللقاءات الصحفية وغير الصحفية كأن تتظاهر دفاعا عن الشيلي وتجد نفسك قريبا من «فرانسوا ميتران» و»جورج مارشي» أو في مظاهرة أخرى تلتقي «جان بول سارتر» أو عند خروجك من الميترو تجد نفسك قبالة «بيكيت» وتفقد إدراكك لتفقد إمكانية الحديث مطولا معه... كذلك في برلين، تدق الباب بحثا عن مخرج فرنسي، فتخطئ وتجد نفسك تتحدث مع «كازافيتس»، تعتذر وتصمت لتلملم ذيلك... في ميدان السينما، كان نشاطي هو الأهم...
ناتي إلى السينما، كيف كانت رؤيتك للسينما العربية من خارج العالم العربي؟
قبل حرب أكتوبر(حرب رمضان بالنسبة للبعض منا كما يسميها العدو الإسرائيلي بحرب أكتوبر)، إهتمامي بالسينما كان إهتمام خريج نوادي السينما حيث تربيت على يد الأب الروحي «الطاهر شريعة» وكانت النوادي أنذاك لم تعش لا قوة فترة رئاستها من طرف نجيب عياد ولا غليانها الإيديولوجي حينما وضع أقصى اليسار التونسي اليد عليها، فأتى بخرابها... كنا ننظر إلى السينما كفن... واستمر الأمر. كان علي أن أقترح موضوع رسالة الدكتورا، ففكرت، نتيجة ما ذكرت من إهتمام خالص بالفن السينمائي، في موضوع عن «جان لوك غودار والسرد السينمائي»... إلا أن إستقراري في فرنسا جعلني أطلع على حقيقة العالم العربي أكثر مما لو كنت أعيش في الوطن... وبالتالي، مسألة السرد السينمائي أصبحت ترفا أمام مسألة نقص الحريات وقلة الثروات العامة وثقل الأحزاب الواحدة حتى ولو كانت لعبد الناصر وبورقيبة وبومدين والقذافي... كل ذلك جعلني أعدل عن غودار واستبدله بثلاثة مخرجين هم صلاح أبوسيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين بحثا عن صورة الإنتماء القومي لدى كل واحد منهم... وجدت الأمر عسيرا وبمساعدة الدكتور أنور عبد الملك، إخترت أبوسيف... وبمساعدة من وزارة الثقافة التونسية التي قدمت لي منحة تعاون، سافرت للإقامة في مصر لمدة ثلاثة أشهر على ما أعتقد، أشاهد الأفلام صباحا في مركز الصور المرئية وأتجول في القاهرة لأتعرف على أهلها وخاصة فنانيها من عدلي رزق الله الفنان التشكيلي إلى محمد نوح المؤلف الموسيقي إلى كل السينمائيين الذين تعرفهم مصر دون أن استثني أحدا حتى قيل بأني تلونت باللون المصري، أعني صبغة الحياة اليومية حيث كنت أتعامل معها كتعامل السياح الأجانب في فترة إنتفاضة 1968 .
جانب آخر في بداية الثمانينات، تمثل في إنضمامي إلى هيئة تحرير «اليوم السابع» وذلك بطلب ونصيحة من الصديق يوسف الصديق وكنت قد قدمت إستقالتي من التدريس في الجامعة لسبب إكتشافي كسل الطلبة وأميتهم. مع اليوم السابع إحتليت مركزا إعلاميا محترما في جميع الدول العربية وفي مجلة تحترم المادة الثقافية وترى أنها وسيلة أنجع لتحريك المجتمع :انّ المجلة منقسمة إلى قسمين، قسم سياسي يميني وقسم ثقافي يساري... من التونسيين في هيئة تحريرها صالح بشير وهو حاليا مراسل «الحياة» من روما وأنا... دون أن ننسى الآخرين الذين يعملون في «الوطن العربي «و «المستقبل» وعناوين أخرى. الرؤية العامة للسينما العربية حينها تميد بين أنموذجين إنتاجيين. الأنموذج المصري والأنموذج الجزائري. لا شيء يقرب بينهما وبينهما هناك الأنموذج التونسي. ليبيرالي من جهة وحكومي من جهة بمعنى أن الدولة تقدم مساهمة محترمة في ميزانية الفيلم على ألا تتدخل في المضمون... وهي سياسة جديرة بالإحترام وقد أعطت النتائج التي نعرف في ما يخص نوعية الأفلام... النظام التونسي ينسحب على السينمات اللبنانية والسورية والمغربية التي في هذه الأيام تعدتنا في الكم والكيف من إنتاجاتها... الأنموذج الجزائري الذي كنا نعلق عليه الآمال هوى واندثر وحتى الأفلام، لم يعد بإمكان أي كان الحصول عليها. وبقي الأنموذج المصري... وحتى هذا الأخير، فقد أصبح في الآونة الأخيرة ينتج أفلاما هي أقرب إلى «لعب العيال» منها إلى فن تعبيري. ثم في النهاية السينما لم تعد سينما بمفردها... التلفزة إحتوت السينما، فأصبحنا نتكلم عن صناعة الصورة...
والحال كما ذكرت، كيف تنهض السينما العربية؟
تقوم وصفة النهوض بالسينمات العربية على عنصرين، الأول هو الحرية مع ما يترتب عنها من ديمقراطية وشفافية سلطة وغير ذلك... ثانيها نظام اقتصادي متماسك يوظف ارباحه في إنتاجاته السينمائية والتلفزية ولا يقوم على المساعدات مهما كانت شرعيتها... يجب أن تكون هناك مراكز وطنية تهتم بالسمعي-بصري بصفة إجمالية، مراكز تسهر على القوانين وتطبيقها، تسهر على الموازنة وحسن التصرف فيها إلخ... وهذين العنصرين لهما علاقة بالسياسي وبالشأن العام في دولنا العربية...
عرفت بكونك ناقد سينمائي بالأساس وبموقفك من التلفزات العربية. إلا أننا نجدك تقدم على خوض تجربة الإنتاج والتقديم في تلفزة حكومية... ألا يعد هذا تناقضا؟
لا أعرف أين التناقض... إني إنتقدت التلفزة الفرنسية وحين سنحت فرصة التعامل مع الثالثة الفرنسية بطلب من صديقتي الروائية الجزائرية آسيا جبار، عضو الأكاديمية الفرنسية حاليا، عملت ولم أبع نفسي للشيطان، فلماذا تنعتني بالتناقض في الحالة التونسية... المنهج ذاته ينطبق على تجربتي في التلفزة التونسية التي هي تلفزة عمومية كما هي حال الثالثة الفرنسية، مما يعني أني أعمل في مؤسسة يذهب إليها قسط ولو قليل من الضرائب التي أدفع... كذلك، أنا لست بدخيل عليها ولم أعمل في التلفزة في النشرة الجوية أو التغطية الرياضية، بل في باب الصورة... وهي مهنتي التي أمتهن منذ اربعين سنة وأتحمل المنافسة وأطلبها... في المقابل، أعرف أن الإمكانات التقنية والفكرية والسياسية الموجودة في التلفزة التونسية حاليا لا تسمح بإنتاج برنامج ثقافي من طراز «دائرة منتصف الليل» الفرنسي مثلا... هذه خلاصة تجربتي لأنك لست الوحيد المسؤول عن مصير برنامجك. هناك المخرج ومدير التصوير والمصور ولاقط الصوت ، وفي ما يخص التلفزة التونسية، أصيبت غالبيتهم بمرض فقدان الضمير ناهيك عن الرقابة والمسؤول عن البرمجة فمدير القناة فرئيس المؤسسة... كل واحد منهم يفهم في الثقافة وفي وضيفتها، وكل واحد منهم له الحق في التدخل ووجوده رهين تدخله. أتذكر مرة أحد المصورين الذي أوقف التصوير بمحض قراره وقال لي بالحرف الواحد: «لماذا لم تشر إلى فيلم كذا لهذا الممثل؟ خلافا عما تقول، فهو أفضل أفلامه»... الضوابط الحكومية تصبح عسلا أمام الكسل المهني العام الذي أصاب عديد هياكل مؤسسة الإذاعة والتلفزة، خاصة منها تلك المرسمة والتي تتقاضى راتبها شهريا... الإدارة لها علم بكل هذا ولا تقوى على شيء لأن المناخ العام لا يقوم على تحمل المسؤولية ومقاضاة المسؤول عن الوهن الذي نعيش والتراجع الذي نشهد...
تجربتك التلفزية كانت بالتوازي مع مراكمة عدد من المقالات بصحيفة «القدس العربي» شكلت فيما بعد مادة آخر اصداراتك «تسريب الرمل» فكيف تنزل هذا الإصدار؟
لم أفكر فيه البتة عند كتابة مقالاتي ل»القدس العربي»، بل كنت أعمل أسبوعيا كما لو كنت اكتب مقالا مطولا... وبما أني من المهوسين بالصورة وبما أن التلفزة أصبحت اليوم المنبع الرئيسي للصورة والمعلومة، وبما أنه كان علي أن أمد اليومية «القدس العربي» بمقال أسبوعي عن الفضائيات العربية والأجنبية، كنت أسبح بين الأقمار الإصطناعية بحثا عن البرنامج المناسب الذي من خلاله أقول شيئا ما للقارئ العربي الموجود في الدول العربية وخارجها كما كان الحال أيام «اليوم السابع»وتراني أثور في داخلي أو عند تخطيط الملاحظات امام بعض المقولات التي تصبها مزبلة الفضائيات وكلها تأتينا من جهة جغرافية عربية/مسلمة واحدة، وبعد البحث وجدت أن رؤوس أموالها آتية هي الأخرى من دول أو تحديدا من دولة تود أن تلعب دورا إقليميا بموارد النفط وبسلطة الديني... وهكذا إنشغلت في إتجاه أنتج في ما بعد هذا الكتاب الذي لم تقبله المؤسسة الحكومية التونسية إلا بعد سنة من صدوره ويعود الفضل في ذلك للسادة عبد العزيز بن ضياء ومحمد العزيز إبن عاشور و...
في كتابك تأملات في المشهد السمعي-البصري التونسي وانتقادات لاذعة للمؤسسة التي تتعاون معها كمنتج؟
لا والله، هي واقعية ولست من الذين «يأكلون الغلة ويسبون الملة» كما قيل لي مرة... أكتب عن التلفزة التونسية ولا شيء يمنعني إلا ضميري الصحفي، ذلك أن «واجب التحفظ» لا يسري علي لا لسبب إلا لأني مجرد متعاقد مع المؤسسة وعقدي لا ينص على هذا الواجب. وهو ما فهمه البعض ممن تداولوا على رئاسة المؤسسة ولم يفهمه البعض الآخر... وهم أحرار في الفهم أو في عدمه الموضوع منتهي.
أما في مسألة المشهد العام، تخيل أننا أصبحنا في ذيل قائمة المشهد السمعي-البصري العربي مع موريتانيا واليمن والصومال والسودان وغير ذلك. حتى الجماهيرية لها 4 فضائيات والمملكة المغربية لها 6 وستنضاف إليها قريبا قناة برلمانية... ونحن؟ إني لا أعرف حتى الآن ماذا يراد من المشهد السمعي البصري التونسي... لنا قناة عمومية هي مثل «المشجب»، غير قادرة على تحمل ثقل أحلام ورغبات التونسي وإزر قرارات ونزوات الدولة غير المقنعة، فباتت تحاكي القنوات التجارية الخاصة ببرامج مثل «آخر قرار» و»دليلك ملك» وحاليا «واحد ضد مئة» إلخ... قائلة بأنها تحصل على بثها مجانا، وهو غير صحيح. كذلك، مجموعة من البرامج السياسية (أو ما يسمونه «الحواريات») وهي على صيغة الديك يغني وجناحه يرد عليه... إنتاجات روائية تعطي الأولوية للجانب المالي دون النظر في الفكر والجماليات كما حصل مع مسلسلات رمضان الفارط وبرامج أخرى هي من باب ملء البث لا غير مع مغنيين تصبغ عليهم التلفزة التونسية صيفة الإبداع والطرب. أن تكون سهرة السبت مقسومة في الشهر بين اربعة برامج في عملية لإرضاء أطراف عدة من بينها «حفلة من صفاقس» دون حفلة من الكاف وهي مهد الفن الغنائي، كيف تريد إثبات المشاهد بأنصاف الحلول أو في الأخرى بسياسة ربح الوقت فقط؟... هذه القناة هي صورة تونس «الرسمية» ليس إلا. إنضافت إليها قناة «حنبعل» الخاصة جدا والتي يزعم صاحبها مؤخرا أن الأوروبيون ينعتونها ب»قناة الصراحة»!!! قوله صحيح إن إعتبرنا فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغير ذلك من البلدان الأوروبية واقعة تحت الحماية الإعلامية التونسية المتمثلة في إشعاع قناة حنبعل الخاصة جدا والتي يعتبرها البعض في تونس «صورة واقعية» لسخافة ما تقدمه من نزعة نحو لغة أقرب إلى قاع المدينة بذاءة... هذه القناة لم تضف شيئا يذكر فيحمد للمشهد السمعي-بصري التونسي، بل جذبته إلى أسفل الإسفاف. قناة 21، مسكينة. فهي لا تملك حتى موازنة خاصة... مشاريع عدة مثل «نسمة تي في» التي هي ليست قناة تونسية بل شركة إنتاج برامج للتصدير وقناة «تي تي واحد» التي عدل عنها صاحبها المنتج السمعي البصري طارق بن عمار ويقال هنا وهناك بأن أحد مواطنينا في الخارج ممن يحذقون التطبيل حصل عليها مع أن وزارة الإتصال ليس لها أي علم بذلك... مجلس أعلى للإتصال هو بمثابة غرفة تسجيل، لا غير... حاليا، قيل لنا عن الفصل بين الإذاعة والتلفزة والإنتاج... تجربة خاضتها فرنسا بعد ال»أو أر تي أف» وندمت على خوضها..
النظام التونسي لا يود الحل الجذري المتمثل في تحرير المشهد كله صحفيا وإذاعيا وتلفزيا بكراسات شروط وإعطاء السلطة الفاصلة للمجلس الأعلى للإتصال مع إعادة تكوينته بعيدا عن الإنتماءات السياسية الحزبية وعما يسمى عندنا ب»المجتمع المدني» الذي أصبح يجمع كل شيء ولا شيء. حتى الآن، لا نرى إلا ترقيعا مستمرا وقرارات مفاجأة لا أول ولا آخر لها تؤخرنا فيما يتقدم الآخرون من حولنا وبتنا نستغني عن صحفيينا وتقنيينا ومبرمجينا حتى تصحرت الساحة الإعلامية والسمعية البصرية في بلادنا... إننا أصبحنا غير قادرين على تصوير مسلسلين وفيلمين في الآن نفسه لقلة اليد العاملة الفنية والتقنية التي هجرت من البلاد لتعمل في قنوات أخرى أتحدى أي كان يقول بأن هذه المعلومات خاطئة...
لمن توجه، ولماذا هذا الكتاب؟
كنت أوجه مقالاتي للقارئ الحاذق للغة العربية حيثما وجد... أما كتابي الذي أصريت على أن يصدر بتونس وليس في بيروت أو الرباط أو دمشق وقد كانت الفرصة سانحة لذلك، هدفه هو القارئ التونسي تحديدا، القارئ الذي هو حصيلة مسار التحديث التونسي منذ خير الدين إلى مفكرينا الحاليين الموجودين بيننا وهم ينتجون وإن لم يخصهم إعلامنا بإهتمامه لماذا؟ لأقول أن مسيرة التحديث هذه قد تتوقف لو سلمنا وآمنا بالمقولات التي تبثها القنوات الخليجية والتي بدأنا نرى آثارها على الشارع التونسي، على سبيل المثال، في مسألة الحجاب الذي يقال صباحا مساء أنه «لباس شرعي»، وبالتالي يريدون فرضه من الداخل على التونسي وفي قرارة نفسه... ومع الحجاب وتتمة له، تلغى الدروس الرياضية للبنات، تلغى المدارس المختلطة، دروس «الجنسنة» تصبح دروس «عفة»، يطبق التمييز بين الطبيب والطبيبة، تلغى مجلة الأحول الشخصية أو تقلص صلاحيتها ونحن نعرف أن «النهضة» طالبت بذلك في سنين مضت... الخطر لم يعد أمام دارنا، بل هو في الدار... فماذا نفعل لأطفاء الحريق... كتابي وددته ناقوس إنذار لا غير...
المتصفح لكتابك يجد أنه قائم بالأساس على نقد ظاهرة التدين في الفضائيات العربية مع إغفال لباقي السخافات... فهل الى هذا الحد أصبحت بعض الفضائيات تهدد المواطن العربي؟
الفضائيات العربية وغير العربية تمثل الخطر في حالة تفاقم الأمية والبطالة والإنكسار والتسلط وانتصاب التمييز بين الرجل والمرأة، والطفل والطفلة ولا ارى بأن عالمنا العربي، بعد أكثر من خمسين سنة إستقلالا، قد حقق الأمن الغذائي وأمن الطاقة والأمن المعرفي والأمن الثقافي والأمن الصحي وغير ذلك... وبالتالي، الفضائيات التابعة لدول تريد لنفسها موقعا إقليميا أمام فشل القومية العربية والليبيرالية والإنفتاح وغير ذلك، تقترح نفسها كبديل قائم على القداسي... بديل إيماني والإيمان لا يشك فيه إثنان وإن شكك فيه أحدنا، فهو ليس منا، فهو كافر، مرتد إلى غير ذلك من المفردات التي نعرفها... الفضائيات مصدر معرفة وتعرف على النفس وعلى الآخر إن صاحبتها سياسة تعليمية وثقافية وإقتصادية... سياسة قائمة على الحرية، حرية الفرد لأنه هو الأساس... فما دام الفرد يدفع قربانا للتماسك الإجتماعي، لن يدوم هذا التماسك لأن اللبنة الأولى هي أساسه والفضائيات تتخاطب مع الفرد وليس مع المجموعة... لم أغفل ما تعنيه بباقي السخافات، تكلمت عن الغنائيات. لعلمك، إن العديد البعض ممن يملكون الغنائيات هم أنفسهم الذين يملكون الفضائيات الدينية. ثم همي الاساسي كان وما زال الإهتمام بالتناول التلفزي للمسألة الدينية وكيف تستعمل بطريقة تحاكي الإعلانات التجارية... ولكونها تستعمل «الماركيتينغ» التلفزي، فهي تصيب في الصميم ومن هنا يأتي تخوفي...
ألا تعتبر هذا الخوف مبالغا فيه؟
نفس الجملة قيلت للمثقفين الألمان مع «ليلة السكاكين الطويلة» 30 جوان 1934 حينما حذروا من أن «هتلر» سيؤدي بالبلاد إلى الخراب وبالعباد إلى التهلكة... قيل لهم بنيرة المعاتب: «إن خوفكم مبالغ فيه»... وحدث ما نعرفه جميعا ومن نتاجه، فقدان فلسطين... إن رأيت مبالغة في الخوف، فلتقارن كيف كانت الشوارع التونسية قبل العشرية المنقضية مع ما هي عليه اليوم... فليفعل كل مواطن تونسي هذه المقارنة ويسائل نفسه عمن يساهم في هذا التحجر القيمي وما هي الأسباب... وللقول، الأسباب ليست كلها خارجية...
ولكن ألا تعتقد أن مشاهد الدين التي عادت بشكل كبير للشارع العربي، كانت نتاجا طبيعيا لمرحلة الإنفصام التي عانت منها المجتمعات العربية في العقود الأخيرة؟
عودة الديني ليست لها علاقة موضوعية بما تقول. ألم يتنبأ الروائي «أندري مالروا» بأن نهاية القرن العشرين ستكون روحانية أو لا تكون... لم تكن الروحانية وجاءت قشرتها وهي «التدين المعلن». ماذا نقول عن إنفصام الشارع الاوروبي أمام الغزو الأمريكي والشارع الياباني أمام الغزو الغربي والشارع الإفريقي أمام طاحونة الغزوات؟ الشارع العربي يعيش ما عاشته شوارع بلدان المعمورة كلها. إلا أن من نجى من الإنفصام هو من كانت له هوية صلبة، الدين يمثل إحدى ركائزها وليس الركيزة الوحيدة... هناك المواطنة وهناك حرية الفرد، هناك التعليم وهناك الثقافة العامة، هناك سياسة حقوقية وهناك مجتمع مدني... بهذه مجتمعة وبعوامل أخرى نجت المجتمعات الأخرى من سلبيات الإنفصام وفرضت وجودها وخياراتها... ما ينقصنا ليست عبوة النجاة الدينية بل مرفأ النجاة المدنية... وهذا المرفأ لا يتمثل في تملك «الديني» بالشارع العربي...
المواطن العربي الذي عاش مختلف تمظهرات المشاريع السياسية والمهزوم عبر التاريخ أصبح يعتقد في المشروع الديني، أليس كذلك؟
صحيح في جانب وغير صحيح من جانب آخر... الجانب الأول يتمثل في إنكسار المنطقة العربية أمام الغزو الأمريكي/الصهيوني في فلسطين، في العراق، في السودان، في لبنان وهلم جرا... وبالتالي، يفهم الإنسان العربي أنها عودة للصليبية وبالتالي الدين (لإسلامي) يقاوم الدين (لمسيحي/اليهودي) والإنسان طحينهما... هذه مصلحة الدول العظمى ومصلحة الطبقات العليا . ألم يقر بعض قادة الغرب اليميني/الإستعماري من «برلوسكوني» الإيطالي الى «جورج بوش» الإبن بأن الصراع صليبيا وصراع حضارات إلخ... من المقولات التي نظر إليها في الجامعات الأمريكية من «فيتغنشتاين» الى «فوكوياما»... مقابل هذا الغرب الإستعماري هناك «القاعدة» الرجعية/الإرهابية والنظم العربية الرجعية/التقليدية. هذه تتكلم بإسم الله وتختزن الفجائع والأخرى تتكلم بإسم الله كذلك مضاف إليه المصلحة العامة وتختزن النكسات/التواطؤات... المواطن العربي (إن وجد حقا) لم يهزم عبر التاريخ وهو الجانب المخطئ في السؤال... إننا معشر العرب لا نحمل في هندستنا الجينية «خلية الإنكسار»... وبالتالي اللجوء إلى صدرية النجاة الدينية المزعومة لا يمثل الحل الجذري... وميوله لهذا الجانب ما هو إلا ردة فعل ضد الأنظمة القائمة التي لا تتحلى بالديمقراطية وهذا أدنى ما يقال عنها... أوتظن أن أصحاب التيار الديني سيكونوا أكثر ديمقراطية؟ إني لا أؤمن البتة بالسراب...
لمن تحمل المسؤولية في هذه العودة للديني إذا؟
المسؤولية مشتركة... مسؤولية داخلية وأخرى خارجية. والداخلية منقسمة إلى عدة أقسام، مسؤولية النظام القائم ومسؤولية «المعارضة» ومسؤولية المثقف ومسؤولية الشعب... في كل مسؤولية هناك خانات متعددة... ناهيك عن المسؤولية الخارجية وهي كبيرة وفاعلة... إذا، لا داعي للنظر إلى الوراء بما أنه لا يمكن أن نتوقف لمراجعة أنفسنا، لأنه لو توقفنا، سيفوتنا الآخر... الحل الوحيد هو الإعتماد على سلطان القانون و قداسة حرية الفرد. عليهما يمكن بناء ديمقراطية عربية مع ما يترتب من إستقلالية وشفافية وتناوب على السلطة مع الكف عن التلاعب بالدستور لسن الجمهوريات الوراثية أو الرئاسات الأبدية.
تقول أن الحل في «لائكية» المجتمع وفصل الدين عن الدولة... فهل تعتقد أن العالم العربي، كفضاء جغرافي والمواطن العربي على وجه التحديد قادر وقابل لتحمل مثل هكذا مقاربات؟
نعم، قلت وأؤمن بأن الحل هو فصل الدين عن الدولة والبحث في ذلك عبر دراسة وغربلة موروثنا الفكري والفلسفي والإستعانة بموروثهم كذلك وهذا فعل المثقفين والدولة والمجتمع المدني... أعرف أن الأمر ليس هينا ولم يكن هينا في بقاع أخرى... أذكرك أن الفصل بين الديني والسياسي في فرنسا قنن في العام 1905 ولكن الصراع بدأ منذ القرون الوسطى وعلى كل الأصعدة من لوحات «ميكيل أنجيلو» وأجوبة «غاليليو» حتى عهد الأنوار والثورة الفرنسية والثورة الصناعية والخليط الإجتماعي... ورغم ذلك المجتمع الفرنسي مجتمع مؤمن، خلافا عما يظنه البعض. إلا أنه لا يرى في إيمانه المسيحي/الكاثوليكي حلا لقضية «إيربوس»... بمعنى أن الفصل لا يعني القطيعة، بل قد يكون الحوار. على الديني أن يحتل مكانه وأن يترك السياسي يعتمل والمدني. الإيمان مسألة ذاتية بحتة والسياسة مسألة تخص الجميع... وظيفتي كمثقف تونسي وعربي له إمتدادات متوسطية وإفريقية، لا يخاف الآخر ولا يمجده هي أن أقول ما أراه صالحا. وفي هذه الحال، ارى بأن عملية تسلط الديني على المدني لن تعود بالخير على المدني مع العلم أن الإنسان مدني بالطبيعة. علينا إسعاف المدنية حتى لا تسقط تحت تسلط الديني. الإيمان شيء والمواطنة شيء آخر. قد يجتمعا في إنسان وقد لا يجتمعان فيه. وهذا الإجتماع إو عدمه لا يحدد صلاحية الإنسان... الإنسان صالح للآخر بمواطنته. بحسب إجتهادي، ما يحدد هذه المواطنة هو فعل الضمير العلني. إلا أن القول بهذا الفصل مطلب عسير في ايامنا هذه لا لسبب إلا لأن الآذان منغلقة ضد كل كلمة عقلانية. قد «أؤذن في مالطا» كما يقول المثل التونسي ولم لا؟ يقولون بإستقالة المثقف التونسي. لا، هذا غير صحيح... إنه يفكر ويعمل وينتج وسنلجأ إليه عما قريب...
المؤلف
خميس الخياطي: ناقد وإعلامي تونسي، أنهى دراسته الجامعية في علم الاجتماع والادب العربي بجامعتي «Paris X و «Paris III ليعمل لفترة طويلة بإذاعتي «Frannce culture و «RFI والقناة التلفزية «FR3 كما كان عضوا في هيئة تحرير «اليوم السابع» وبنقابة نقاد السينما بفرنسا وفي لجنة اختيار الافلام لأسبوع النقاد (مهرجان «كان»).
تحمل مسؤولية إدارة المكتب الصحفي لمعهد العالم العربي بباريس قبل العودة الى تونس حيث عمل مراسلا قارا لجريدة «القدس العربي» التي يخصها بمقال اسبوعي عن الفضائيات. يعد ويقدم برامج تلفزية عن السينما والتلفزة على الفضائية «تونس 7» له عديد المؤلفات والدراسات (بالغتين العربية والفرنسية) في المجال السمعي البصري العربي.
... مؤلفاته
فلسطين والسينمات: إدارة مشتركة، فرنسي، دار E100 باريس 1976
النقد السينمائي عربي، دار المعارف، القاهرة 1983
عن السينما المصرية، إدارة فرنسي، دار Cinematheque كندا 1986
صلاح أبو سيف، مخرج مصري، فرنسي، دار Sindbadباريس 1990
صلاح أبو سيف، عربي صندوق التنمية الثقافية القاهرة 1995
السينما العربية، فرنسي، دار L'Harmattan، باريس 1996
نجوم بها تهتدون، عربي دار Mediacom، تونس 1998
بحثا عن الصورة (سينما وتلفزة) فرنسي، دار Sahar، تونس 2001
من بلدي، فرنسي، تحت الطبع، دار L'Armoise باريس 2006
الاصدارات الجماعية
التراث الثقافي الفسطيني، جماعي فرنسي ، دارLe Sycomore باريس 1980.
الصورة في العالم العربي، جماعي، فرنسي، دار CNRS باريس 1996
دفاعا عن سلمان رشدي، جماعي، فرنسي، دار Decouverte La باريس 1996.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.