نخجل من الكتابة عن الثورة التونسية المجيدة في زحمة الكلام. نخجل، لأنّ الكلمات، ما زالت تحوم في الفلك المحيط بجوهر الثورة، ولأنها تصبح فعلاً مجسّداً خارجاً من شرايين جسدها الغاضب وأوردتها. وستكون الكتابة عن هذه الثورة المدهشة فعلاً مفعماً بالصدق، إذ تصبح عملا معادلاً لعظمة اليأس الذي تجلى فيها من دون مساومة. وهكذا تحوّل الانتظار الذي طال إلى ثورة ترسم المستقبل، تلك الثورة الشعبية العارمة التي انطلقت شرارتها الأولى، ذات شتاء عاصف من شهر ديسمبر/كانون الأول 2010، هي ليست رداً على الاستبداد وحسب، بل ثورة على الماضي بكل تراكماته المخزية وتداعياته المؤلمة. هل نخجل من الكتابة، لأننا بانتظار "هومير"عربي،لكي يسجّل ملحمة التحرّر العربي الحديثة، وهي تتخبّط في بحر التآمر الإقليمي والدولي، أو لأنّ الملحمة التونسية التي ستكتب بالكلمات ستكون المعادل الحقيقي لعظمة هذه الثورة؟ المقهورون وحدهم يمهّدون الأرض أمام من سيكتب تلك الملحمة، لتدخلَ في سجل التاريخ، عملاً عظيماً يوازي الملاحم الكبرى في حياة الإنسانية. الغاضبون هم الذين يصنعون أسس عمارة الملحمة التي ستنتصب في مسيرة التاريخ شاهداً على أنّ الكتابة فعل يوازي عظمة الغضب. لذا، نخجل من الكتابة عن الثورة التونسية المجيدة التي ما زالت إنشاء لغوياً، يبرّر هزيمة قدراتنا على الدوران خارج النبل التاريخي المتمثّل في غضب الثورة. لهذا تطلّعنا جميعا إلى ملحمة البطولة التي تمثّلت على الأرض بالرفض والمقاومة، وتجلّت في تصحيح التاريخ العربي، بأمثولة تكتب لكل الشعوب العربية، ملحمة خالدة تقاوم القهر والاستبداد، وتكشف زيف قوّة الديكتاتورية العمياء والظلم الحافي، لتمجّد ألقَ الروح الشعبية التي تكتب الشعر بإيقاع الانفتاح على الخلود. لا أقول إنّ الرأسَ تطأطأ أمام الاستشهاد من أجل تونس، بل إنّ الرأسَ تظل مرفوعة، فخراً بشعب أعزل، آمن بأنّ الشجرة إذا ما اقتلعت تفجّرت جذورها حياة جديدة، وتلك هي ملحمة الانبعاث من رماد القهر، بانتظار من يدخلها ذاكرة التاريخ عملاً عظيماً، يشعّ منارة في المسيرة الظالمة التي تنشر ظلمتها قوى الشر في العالم. سلام هي تونس، فلا بهجة لأبنائها خارج فضائها، وهي مقامنا أنّى حللنا، وهي السفر. ولكن.. تونس التي نحبها ونضعها خلف شغلق القلب متخمة اليوم بالجراح في نخاع العظم.. فلقد اتّسعت دائرة الاحتجاجات، لنسمع عن إضراب أو اعتصام فئة من المهنيّين أو أعوان الوظيفة العموميّة،أو غيرهم من الذين لم نسمع لهم احتجاجا أو اعتصاما في ستّة عقود مضت،على عهد بورقيبة أو على عهد بن علي،أمّا اليوم، فنحن من إضراب الأطباء والقضاة إلى إضراب الأساتذة والمعلمين، ومن اعتصام البلديّين وأعوان الأمن إلى اعتصام سوّاق التّاكسي،ومن إضراب العاملين في قطاع شركة الميترو الخفيف،إلى العاملين في المطارات،وغير ذلك من الإضرابات كثير،وفي مجالات حيويّة شتّى،لا بل عمد قطاع آخر من المحتجّين إلى إغلاق الطّرق واقتحام المؤسّسات الحكوميّة أو الخاصّة،وتجاوز آخرون هذا المدى،وتحلّلوا من كلّ أسباب الاحتجاج الحضاريّ، فعمدوا إلى إغلاق المدارس، وإيقاف إنتاج المصانع، وتعطيل المرافق العامّة.. وهنا أضيف: إن ارتفاع نسق الاضرابات والاعتصامات،خصوصاً في القطاعات الاستراتيجية،سيُضعف الاقتصاد ويربك عملية إنتاج الثورة.وقد شعر الكثير من التونسيين بالخطر عندما كشفت المصادر الرسمية عن أن نسبة النمو قد انخفضت خلال السنوات القليلة الماضية،إلى حدود 1.7 في المئة.ويعود ذلك إلى موجة الاضرابات من جهة،وإلى انهيار قيمة العمل بشكل غير مسبوق،من جهة ثانية.وعندما يصاب اقتصاد ما بهاتين العلتين لن تقوم له قائمة،خصوصاً أن كبريات المؤسسات المالية الدولية،وفي مقدمتها البنك الدولي،قد رفعت من سقف ضغوطها على تونس من أجل دفعها نحو إنجاز “الإصلاحات”المطلوبة لأنه في حال عدم إنجاز ذلك،فإن المساعدات المالية قد تتوقف، ونية الاستثمار في تونس قد تزداد انكماشاً. «جئت إلى هذا العالم كي أحتجّ»..هكذا حدث مكسيم غوركي ذات يوم، ولكن تونس- اليوم- تحتاج منا جميعا في المرحلة المقبلة، إلى الاستقرار كي تهضم مكاسبها الديمقراطية، التي أنجزتها في زمن متخم بالمصاعب والمتاعب.. أنجزتها بخفقات القلوب ونور الأعين.. وبدماء شهداء ما هادنوا الدهرَ يوما. وما علينا والحال هذه، إلا تغليب العقل على النقل كي لا يتغلّب في المقابل الفتق على الرتق.. ونسقط – لا قدّر الله- بدون وعي منا- في هوّة الفوضى والخراب.. حيث لا شيء غير الندم وصرير الأسنان.. ما أريد أقول؟ أردت القول،إنّ مشهدنا السياسي في ثوبه الجديد غدا منفتحاً على تغيرات نوعية،سواء في مستوى الفاعلين الجدد،أو في مستوى الأساليب والخطاب والمرجعيات الفكرية والسياسية. ومن هنا،لم تعد العقائد،دينية أو قومية أو مذهبية طبقية،قادرة على صياغة المشروع السياسي الذي يؤطر المجتمعات ويحمسها،ولا سيما وأنّ الثورة التونسية أفرزت جيلاً جديداً من الناشطين في المجال المدني،قادراً على حماية ثورته،والسمو بها عن كل مظاهر الارتداد والترجرج.وقد أثبت هذا الجيل الشبابي مهارة عالية في أثناء إشرافه على شفافية العملية الانتخابية ونزاهتها. وما على الأحزاب السياسية التي تناسلت بعد الثورة،وتضخّم عددها،إلا أن تتكيّف مع المشهد السياسي الجديد،وتنفتح على المجتمع،وتتفاعل معه،وتصبح بالتالي مدارس للكفاءات السياسية،بما من شأنه أن يجعلها في مستوى انتظارات الشعب المتعطّش للتحرّر والانعتاق،وإلا سوف تصاب بالوهن والتكلّس،وتجد نفسها خارج دائرة التاريخ لتونس الحديثة،تدفعها نزعات انتهازية صوب مهاوي الاندثار،كما حصل أخيراً لأحزاب سياسية لم يشفع لها رصيدها النضالي،وتهاوت مثخنة بالإحباط والفشل. هنا أختم: يرفض التونسيون،من الجنوب إلى الشمال، بشكل قاطع، إثارة النعرات الجهوية وتقسيم البلاد، وتهديد السلم الاجتماعي،ونسف المسار الديمقراطي،ولم يعودوا، بالتالي، يقبلون الوصاية على عقولهم،والاختيار بدلاً منهم،والعمل على تنميط سلوكهم الانتخابي. على هذا الأساس بالتحديد، بات لزاماً على السياسيين أن يرتقوا إلى مستوى طموحات الشعب، ويحترموا حقه في اختيار الرئيس الذي يريد،ذلك أنّ منطق الإقصاء والإقصاء المضاد لا يخدم مطلب التعايش الديمقراطي، بل يهدّد بنسف الوحدة الوطنية،والانزياح عن التنافس السلمي عن السلطة إلى التعصب الشخصاني، أو الحزبي، أو الجهوي. والأهم لمن يريد الفوز برئاسة تونس في الإستخقاقات الإنتخابية القادمة أن يبعث رسائل لغوية،مطمئنة إلى الناس، ويظهر في صورة الرئيس الذي يجمع ولا يفرّق، يجمع المواطنين تحت راية الوطن، وراية الحرية وحق التنوّع والاختلاف، وينأى بخطابه الانتخابي عن الزعامتية الواهمة، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة..