بقلم : محمّد المهذبي* أثبتت التحوّلات التي تعيشها المنطقة العربية، بقطع النظر عن الموقف منها، دور "الشعوب" أي ما نقصد به عادة كلّ ما يخرج عن دائرة النخبة وعن المؤسسة الرسمية، في صنع الأحداث. ولا شكّ أنّ لذلك انعكاسات على كتابة التاريخ وصياغة الذاكرة الجمعيّة. فبعد محاولات نزع الصبغة الاستعمارية عن كتابة تاريخ الشعوب المستعمرة وهو مشروع رعته اليونيسكو، وجدت السرديات الرسمية والنخبوية نفسها في أزمة بفعل الثورات العربية وأمام دعوات مستعجلة أحيانا لمراجعة التاريخ بل وإعادة كتابته. وإذا كان هناك إجماع على رفض التاريخ الاستعماري فإنّ الرواية الرسمية أو النخبوية للتاريخ الوطني، بدورها، لا يمكن التصديق عليها دون ملاحظات باعتبارها لا تخلو من تهميش دور الجماهير وتجاهل التناقضات أو كبتها. فحسن حسني عبد الوهاب مثلا في كتابه الشهير "خلاصة تاريخ تونس" يتحدث عن "المفسدين من الأعراب" المتمرّدين على سلطة الباي في عهد الدولة المرادية. ويصف بن أبي الضياف بعض الجماهير الثائرة زمن ثورة علي بن غذاهم بالسفهاء. أمّا النظرة البورقيبية فهي أيضا ليست خالية من التعالي، فهو يصف الشعب التونسي بأنّه "غبار من الأفراد" لم يكن له ما يوحّده قبله وأنه أوّل رئيس دولة تونسية "لحما ودما" في التاريخ. لكلّ تلك الاعتبارات يكون من المبرّر مراجعة التاريخ أو على الأقلّ فسح المجال لرؤية مختلفة تعطي الشعوب حقها وتأخذ التناقضات والتعدّدية بعين الاعتبار. ولعلّ أكبر مبرّر لهذه النظرة يكمن في مبدإ العدالة بمعناها الأشمل. فالتأريخ هو بمعنى من المعاني تحقيق "قضائي" ينبغي أن يعطى فيه كلّ ذي حقّ حقّه. كما أنّ كلّ توجّه سياسي يستند إلى رؤية تاريخية معيّنة تبرّره. ثمّ إنّ الوحدة الوطنية تحتاج دائما إلى تصوّرات إن لم يكن إلى "أساطير" تؤسّسها. ولعلّ الظلم الذي تعرّضت له الفئات المهمّشة على مرّ التاريخ يقتضي تصحيح الرؤية. فمقاومة الاستعمار مثلا لم تعط فيها الانتفاضات الشعبية حقّها مثل ثورة الفراشيش وثورة الجنوب وواقعة الجلاز وثورة المرازيق وفلاقة زرمدين وغيرها، عدا محاولات فرديّة. كما أنّ بناء مقوّمات الحداثة السياسية ربما لم ينظر إليه دائما من زاوية مساهمة "المجتمع المدني" انطلاقا من حركة الشباب التونسي والحركة النقابية وحركة تحرير المرأة في مقابل دور النخب والقيادات السياسيّة. إنّنا ببساطة لم نقم نصبا لما يوازي "الجندي المجهول" في تاريخنا القديم والحديث. فالكتابة من هذه الوجهة الشاملة والواعية بذاتها تكاد تقتصر على كتاب الطاهر عبد الله "الحركة الوطنية التونسية، نظرة شعبية قومية" رغم محدودية التناول والحضور الايديولوجي الواضح في المعالجة، إلاّ أنّ ذلك لا ينبغي أن يغمط المؤلّف حقّ الريادة في وضع اللبنات الأولى لقراءة التاريخ الوطني من زاوية تاريخ الشعوب. ويبقى هدف مثل هذا المشروع المساعدة على الإدماج السياسي الأوسع من خلال الاعتراف بالتعدّد بل وبالتناقضات كمنطلق لحلّها. فالصراع المستعاد اليوم بين اليوسفية والبورقيبية مثلا رغم مرور عقود طويلة لا يمكن تجاوزه إلاّ بالنظر إليه من وجهة نظر تاريخية تتجاوز الشخصنة وتعتبر ما حدث، في نهاية المطاف، "حيلة الوطن"، إن جاز لنا استعمال مصطلحات فلسفة التاريخ، لبلوغ الأفضل من خلال التنافس وإن خرج عن السيطرة وتحوّل إلى صراع دموي. فقراءة التاريخ لا بدّ لها أن تنصف المظلومين ولكنّها ليست مجبرة على الوقوف إلى جانب هذا الزعيم أو ذاك والمبالغة في أخذ الصراع مأخذ الجدّ. إنّ تاريخ الشعوب ليس سوى السند النظري لمسار المصالحة الوطنية. وحتى إن تعذّر في الوقت الحالي إعادة كتابة ذلك التاريخ فلا ينبغي أن ننسى أنّ المصالحة الوطنية وإن تمّت سياسيا وقانونيا فهي لن تعيش في أذهان الشعب ما لم تستند إلى صورة جديدة للتاريخ أو لسرديات تغيّر نظرة التونسيين لأنفسهم وتكون مبعث فخرهم واعتزازهم بذاتهم وبكرامتهم الوطنية. ولا شكّ أنّ مثل تلك النظرة ستكون أحد أسس الثقافة الديمقراطيّة التي تعلي من شأن المجموعة ومن دورها بعد أن نشأت أجيال عديدة على الإفراط في تقدير دور الأشخاص والزعماء والنخب عموما في تاريخ البلاد. وإذا كان من غير المعقول إنكار دور النخب والزعماء فإنّ تحويل ذلك إلى ما يشبه العقيدة الجامدة، بسبب خليط من الكسل الفكري والخضوع الآلي للأحكام المسبقة، هو الذي يحتاج إلى مراجعة. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنّ من حق المواطنين انتظار إصدار تاريخ شامل لتونس من زاوية تاريخ الشعوب تعطى فيه الأولوية للوطن وللشعب على عبقرية الأفراد مهما سطعت. إنّ المقصود بتاريخ الشعوب ليس الاستسلام لمشاعر شعبوية فياضة أو لإيديولوجيا معيّنة أو تأسيسا لنزعات لا سلطوية أو فوضوية تقدّس عفوية الجماهير، بل هو فقط إعطاء الحق في الوجود لنظرة أخرى غير النزعة النخبوية أو المثالية التي تجعل الأفراد العباقرة هم وحدهم صانعي التاريخ. ولعلّ ذلك يبقى مهمّة المؤرخين المحترفين ثمّ الهواة ممن حصلوا على الاعتراف العام، ولكنّه أيضا من مهمات وسائل الإعلام التي تكتب "التاريخ اليومي" أو تعيد كتابته في كلّ لحظة تقريبا. فكتابة التاريخ ليست شأنا أكاديميا فقط حين نرى أنّ الثورة التي قامت في بلادنا قد صنعها شباب بلا زعماء ولا أحزاب فإذا هي تتحوّل في نظر البعض إلى أحزاب تسعى إلى استصدار شهادة ملكية لها في شكل قانون "تحصين" يبني من حولها القلاع والأسوار والحال أنّنا لا نكاد نعرف من المشاركين في الثورة على وجه اليقين إلاّ الشهداء الذين ذهبوا وذهبت معهم شهاداتهم. في حين يعتقد البعض الآخر أنّ الشعب فوّضهم بواسطة الانتخابات لحماية ثورته. فماذا سيقول التاريخ من وجهة نظر "الأغلبية الصامتة" إن كان لها أن تنطق في يوم من الأيّام؟