عندما استقرّ الرّأي على الكتابة والنشر على صحيفة الصّريح – اسم على مُسمّى – آليت على نفسي عدم ولوج متاهات السياسة اليومية التونسية لأسباب عدّة منها: بعدي عن أرض الوطنن منذ عقود ، التغيرات الكبيرة التي طرأت على المجتمع لغة وأخلاقا وتصرّفا وغايات ، و عدم معرفتي الناشطين على الساحة باستثناء ثلاثة أو أربعة هم السادة قائد السبسي والمرزوقي وبن جعفر . أما السيد الغنوشي ، فلا أقول عرفته بل التقيته لقاء خاطفا ، في مناسبة ببرشلونة حضرها أخو الأمير عبد الكريم الخطابي – بطل الرّيف – ووزير داخلية مغربي والرّئيس أحمد بن بلّة وشخصيات أخرى عربية وإسبانية ، وكانت المناسبة تدشين مركز ثقافي يحمل اسم بطل الريف. جاء جلوسي على مائدة الغداء بين الرئيس أحمد بن بلّة وراشد الغنوشي. أسباب أخرى يمكنني إضافتها لكن ، اختصارا أقول ليس ثمّة ما يعطيني الحق في الحكم أو النقد العقلانيين المبنيين على حقائق ملموسة وواقع مرئيّ وببراهين وأدلّة لا مراء فيها ، فيأتي الحكم أو النقد بعيدا عن كلّ عاطفة أومؤثرات نفسانية شخصيّة. لذا ، اقتصرت كتاباتي على ذكر بعض تجاربي ، وتجارب الغير التي تابعتها أو عشتها ، بغية استنتاج العبرة وتحاشي الأخطاء والعثرات التي أثبتت تلك التجارب إمكانية الوقوع فيها لتشابه الظروف والمعطيات. لكنّي هذه المرّة سأحيد همّا قرّرته سلفا ، وسأقمح نفسي في السياسة التونسية ، بحذر وفي الضروريّ فقط ، لأني مهما بعدت فما أنا إلا مواطن يحمل بين جنباته وطنه الصغير والكبير، ولا يحلم إلاّ بازدهاره وتقدّمه وسعادة مواطنيه. إنّ الظروف والأوضاع السياسية والإجتماعية والإقتصادية ، وما ينتج عنها من تفكّك وفقدان التعقل ، وضياع والإنضباط ، وانتشار الفساد ، الذي أصبح عاهة ووبالا حسب المعلوم ، والاستغلال ، والانفرادية ، واستيلاء اليأس وفقدان الأمل – وهذا لعمري أخطر الأخطار – جعلت البلاد تعيش مرحلة لا تحسد عليها ، وهي حسب المقرّر ، مقدمة بعد بضعة أشهر ، على انتخابات تشريعية ورئاسية ، أقل ما يمكن وصفها به هو أنها تاريخية كي لا أقول مصيريّة. لست مبالغا بالمرّة إن قلت إنها مصيرية ، لأنه لو لم تسفر الانتخابات القادمة عن أغلبية لبرنامج جدّي واقعيّ تقنيّ شامل ، يتناول مجمل مشاكل الوطن ، عارضا حلولا لها فعلية ، معوّل فيها أولا وبالذات على النفس والإمكانات المحلية ، برنامج يقرأ حساب الشعب ويشركه في كلّ الحلول وتطبيقها ، برنامج لا مكان فيه للتنافس الرخيص ، ولا لعداوة بغيضة ، ولا لتبعيّة مهينة ، برنامج لا خفية ولا أسرار فيه ، يقول لكلّ تونسيّة وتونسي ، بالحرف والكلمة الواضحة ، كامل الحقيقة التي يجب ومن حقه أن يعلمها ، ويشرح لها وله السياسة المقترحة ، والأسلوب الذي سيتبع ، ونصيب هذا وهذه وذاك وتلك ، نصيب كلّ فئة من فئات الشعب في تنفيذه والعمل على إنجاحه لأن فيه نجاح الجميع. برنامج متفتح لإثرائه وتغذيته بآراء واقتراحات وتحسينات الآخرين من غير الهيئة أو الحزب أو الكتلة التي أعدّت البرنامج وقدّمته لنيل موافقة الشعب عبر أصواته في انتخابات نزيهة شفافة ، قد تخضع لمنافسة علنية صادقة نزيهة مؤدبة ، لا بغض ولا كراهية فيها ولا عداء ، بل سباق نحو الأفضل واجتهاد لبلوغ مرسى النجاة. هل لتونس اليوم ، في حالتها الراهنة ، بالمائتي حزب ونيف ، وبالنفسية السائدة ، وطرق العمل والتنافس المعلنة ، وبما أخجل عن ذكره من تبعيات ، واتباع " نصائح" ومحاكاة ، وتقليد ، هل لها حزب يستطيع ، أو كتلة بإمكانها ، أو أيّ تنظيم ، أيّا كان، على استعداد لتقديم برنامج مدقق ،واضح ، صريح ، شامل ، يستجيب لحاجيات البلاد كالذي وصفته قبل أسطر على أقلّ تقدير ، وحبّذا لو كان أحسن؟ إني وايم الحق ، وبكل صراحة أشك ، والشك مبني على ما يشاهد ويسمع ، وليس فيه ما يرضي أو يريح البال. إن الإنتخابات القادمة ، كما سبق القول ، ستكون الفاصل بين النجاح والفشل ، بين الإنتصار والهزيمة ، الانتصار على العيوب والنواقص بعقل ثائب وعزيمة صارمة. لأنه لا يخفى أن الشعوب لها ما يمكن تسميته " الحسّ السادس" ، به تحكم على الأمور في بعض الأحيان. فكلّ ما يُخْشى في هذه الإنتخابات هو تصرّف الشعب الذي ملّ الوعود والسفسطة بحسّه السادس ، فلا يُقبل على الانتخابات ويقاطعها مفضلا البقاء بالبيت أو الخروج للنزهة والترفيه. فإن لم يقبل والتفت إلى ناحية أخرى فتلك هي الكارثة التي لا يعادلها إلا تشتت الأصوات نتيجة التردّد وعدم الوضوح. تونس اليوم حقا في مفترق طرق ، ونجاحها ونجاتها بأيدي الذين سيترشحون للانتخابات المقبلة التي تفوق سابقاتها أهمية ، وهي باب النجاح أو الفشل والهوان. لقد حان وقت مصارعة الثور وأخذه من قرنيه – كما يُقال هنا – ومعنى هذا حان وقت ترك التصريحات والوعود بالعموميات التي لا تعني شيئا. كفى من سنقاوم البطالة ، سنعمل للقضاء على الامتيازات ، سنحارب الفساد ، سنحقّق المساواة ، وفي النهاية لا يُحقّق شيء ولا يوفى بأيّ من هذه الوعود. بعد ثمانية أعوام من انتفاضة ظن الشعب أنه قضى بها على أسباب همومه ، ها هو لا يزال يشكو ما انتفض ضدّه أو حتى أكثر منه. إنّ جميع المحتلين مسرح العمليات يدّعون الوطنية وخدمة البلاد. لا نريد الشك في النوايا لكن ، كما قال مرّة أمامي ابن أحد شيوخ التراب ، تلك السلطة الرمزية التي موّه بها الاستعمار على البسطاء ، فكانت تمتص دماء الفقراء كي تمنحهم شهادة أو إثباتا يحتاجونه لقضاء بعض شؤونهم ، قال مجيبا امرأة عجوزا قضى لها حاجتها فشكرته وجعلت تدعو له وتطلب من الله منحه ما يريد فقال: " هذا ما يغليش في الطنجرة ". فالوعد بكلمات رنّانة ، عموميات ومشاريع خيالية " لا يغلي في الطمجرة" فيجب إبداله ببرامج حقيقية ، واقعية ، مبنية على معطيات مأخوذة من الميدان ، بأرقامها وإحصائياتها وطرق تنفيذها ودور المسؤولين والتقنيين والحرفيين وأفراد الشعب فيها. هذا ، في نظري ، ما يعيد الثقة إلى نفوس المواطنين ، وتصديق الوعود من طرف الناخبين ، فيضمن الإقبال على الانتخابات بأغلبية كبيرة مريحة ، تثبت مرّة أخرى نضج الشعب ومعرفته السبيل الذي يريده. ما من شك أنّ الديمقراطية تعطي الحق لكل مواطنة ومواطن في أن يشغل أي منصب أو يتولّى أيّة مسؤولية. لكن عاش من عرف قدره وجلس دونه. عرفت ، ومن خيرة من عرفت ، رجلين تونسيين تصرّفا حقا بما تعنيه هذه المقولة. أولهما هو المرحوم محمد عبد اللطيف وعرف بالخياري الذي كان من أنجح المعلمين. لم نكن نقابله إلا في العطلة الصيفية أما بقية السنة فإما ذاهبا أو عائدا من مدرسة رحبة الغنم محملا ، مثقلا بدفاتر الطلبة التي سيسهر عليها مراجعا ومصححا. رأفت لحاله ، وهو الصديق المحترم ، فعرضت عليه مخاطبة مدير إدارة التعليم الإبتدائي بإدارة (وزارة) التعليم والتربية – وكان صديقي ومن المتفهمين ، كي يعيِّنه في منصب إداري يريحه ، فصاح لاقتراحي يقول:" بالله لا تفعل يا محمّد ، فأنا لا اشعر بالسعادة وبأني مفيد إلا داخل فصل التدريس وأمام أبنائي الطلبة." أما الثاني فلست أدري إن لا يزال حيّا أو توفاه الله ، كان من أبرز الموظفين. عرض عليه مرات مناصب عليا آخرها سفارة في أي بلد يشاء ، فرفض كل العروض. سألته عن سبب أو اسباب رفضه فقال :" لست أهلا يا أخي لما عرض علي. أتريدني أن أجلس على كرسيّ ليس لي فيه حق ؟ كلا ! لن يكون ذلك منّي أبدا ." هكذا ، وبمثل هذه العقلية ، وهذا التجرّد ، يريد الشعب ويجب أن يتصرّف السياسيون ، وجميع الذين يتحرّكون على مسرح الحياة اليومية الوطنية ، ويزعمون أنهم يعملون لخير البلاد والعباد. إن كان هذا حقا ، ولا وجوب للشك في أنه حق وحقيقة ، فالعقل والمنطق والحاجة والظرف ، كلّها تفرض على أن لا يجلس في المقعد المناسب إلا المرء المناسب. أيصعب علينا هذا يا ترى ؟ مدريد 2-5-2019.