عرفت المفكر والأكاديمي القطري أ.د. محمد صالح المسفر سنة 1990 قبل أن نصبح زملاء في جامعة قطر فاكتشفت فيه أنذاك المحاور الذكي لأكبر القامات الفكرية العربية من خلال برنامجه التلفزيوني الحواري السباق على القناة القطرية كان ذلك حين دعينا أنا و الأستاذ المرحوم محمد مزالي من منفانا الباريسي إلى الدوحة و كانت الكويت محتلة من قبل صدام حسين رحمه الله وتلك الدعوة لرئيس حكومة معزول و مضطهد صحبة رفيق مسيرته و منفاه كانت بالنسبة لي و لرئيس الحكومة السابق فرصة ذهبية لنتعرف على القيادة القطرية أكثر و نقف على جرأتها و سلامة توجهاتها و مساندتها الأخوية للكويت خاصة تعرفنا أنذاك على سمو ولي العهد الشيخ حمد بن خليفة حفظه الله و تحدثنا معه طويلا و استمعنا اليه فأدركنا رؤيته العميقة لقضايا الخليج و مصيره و ما ينوي إنجازه في دولته ثم على هامش الزيارة ألقى مزالي محاضرة على منبر ناديالجسرة الثقافي و دعاه د. محمد صالح المسفر لحوار تلفزي دام أكثر من ساعة حول الملفات الخليجية و العربية و أحوال تونس التي شرع الإستبداد ينقض عليها بشراسة مع تخبط في موقفها إزاء إحتلال الكويت بين التردد في إعلان الإصطفاف مع صدام حسين و الخشية من اتهام تونس بأنها من دول الضد ! و اليوم ينشر الزميل العزيز محمد صالح المسفر كتابا متميزا بل يكاد يكون الدرة اليتيمة في تحليل الشأن الخليجي بجرأته المعهودة و قوة حجته و سلاسة أسلوبه مما يجعل هذا الكتاب يسير القراءة لا للجامعيين و الخبراء وحدهم بل لكافة القراء العرب حتى يفهموا خفايا العلاقات الخليجية الخليجية (وهو عنوان الكتاب الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات مع عنوان فرعي هو: معضلة الفراغ الاستراتيجي و التجزئة 1971-2018) مع العلم أن د.المسفر عمل في الحقل الدبلوماسي بسفارة قطر في لندن ثم في منظمة الأممالمتحدة بنيويورك إلى جانب تدريس العلوم السياسية في جامعة قطر وهو كاتب مقالات قيمة على الصحف الخليجية و العربية و محلل استراتيجي في قنوات تلفزية مثل البي بي سي و قناة روسيا 24 و الجزيرة و لا أخفيكم أنني شخصيا مع كثير من النخبة القطرية و العربية نتمتع بتحليلاته و نستفيد و نستزيد مناستشرافاته السياسية الثرية حين تجمعنا به هنا في ليالي الدوحة مجالس أصدقائنا و طلابنا القطريين وهي كثيرة غنية بالثقافة السياسية و الأدب و الفكر. الكتاب الذي صدر هذه الأيام ليس الأول لد.المسفر فقد أصدر (الخليج العربي بين التبعية و الاستقلال) و كتاب (العرب و الغرب و العولمة) و قبلهما نشر كتاب (المنظمات الدولية خلفيات النشأة و المبادئ) لكن هذا الكتاب الجديد يصدر في عز أزمة صعبة معقدة تحملتها دولة قطر من دول خليجية يفترض أن تكون شقيقة لكنها حاصرت قطر منذ عامين و فتحت أبواب علاقات متشنجة بين مجتمعات الخليج و هددت منظومة مجلس التعاون لدول الخليج بالتفكك و دخول عصر المحاور و الابتزاز. يبدأ الكتاب بمقدمة تاريخية للمجتمعات الخليجية و نشأة دولها و الظروف الإقليمية و الدولية التي أحاطت بتأسيس هذه الدول الستة و ما نشب بينها من أزمات و ما أعاق تعاونها من مؤامرات كيدية و يحلل الكاتب بخبرة و جرأة ما أخطأ فيه قادة الخليج من خيارات و ما أصابوا مما بوأ هذا الكتاب منزلة العرض الأمين الدسم العميق العاكسلواقع و وقائع أوصلت الإقليم الى الوضع الراهن و يخلص د.المسفر الى أن الخلافات الخليجية الداخلية لم تكن مبررة و لا مقبولة بين مجتمعات تتشابه في الدين و اللغة و العادات و الموارد و يدعو الكاتب قادة الخليج الى الوعي بالمصير الواحد للخليج بتطبيق بنود ميثاق مجلسها و حل خلافاتها بألية قانونية ينص عليها ميثاق المجلس. إن الجديد و المبدع في الكتاب هو الفصل الأخير و ما قبل الأخير فالفصل الخامس يتطرق لمطلع الألفية الثالثة و تصاعد أزمات الخليج وهو يروي بدقة الباحث و بمرارة الخليجي المتأثر و المتأسف ما تعاقب على الخليج من قرارات خاطئة و ما تفاقم حوله من مطامع عالمية ثم في الفصل السادس و الأخير يحلل الكاتب ما سماه (دول الخليج في المنظورين الأمريكي و الإسرائيلي) ليصل بنا إلى تفسير صفقة القرن التي ستعلن كما نتوقع في مؤتمر البحرين القادم عن تصفية القضية الفلسطينية نهائيا و استفحال الليبرالية الصهيو-امبريالية الجديدة على حساب حقوق العرب و الخليج. خلاصة القول أن الكتاب وثيقة أساسية لا غنى عنها لفهم خفايا الحاضر و المستقبل وهي بقلم مفكر صادق يتميز بالوطنية العروبية الخالصة و التشبث بالثوابت الأصيلة لعروبته على ضوء التجارب المريرة و الصراعات الأليمة فالف شكر و تقدير للزميل و وفق الله جهوده في خدمة الحق.