لم أتعود على كتابة الرسائل المفتوحة الا عندما تنقطع صلتي المبشرة بالمعنيين لأجدها الوسيلة الوحيدة للتواصل وإبداء الرأي والنصح عند لاقتضاء لمن أحبهم وأعرف عنهم الكثير من سنين. اخترت اليوم المنظمة الشغيلة العريقة التي انبعثت منذ أيام الاستعمار وبعدما تجرأ الشهيد فرحات حشاد عليه رحمة الله بإعانة من أنصاره والشيخ محمد الفاضل بن عاشور الذي بات نسيًا منسيًا مثلما حصل للسيد أحمد بن صالح الذي خلفه في الأمانة العامة في أحلك الظروف. كانت تلك المنظمة التي انشقت عن المنظمة الفرنسية التي كانت تسمى س.ج.ت CGT وقد كانت تونس وقتها تحت الاستعمار ولم تتحرك فيها النقابات التي تدافع عن حقوق العمال الا في بعض المرات في أيام محمد علي الحامي الذي أكمل حياته منفيا من طرف فرنسا التي كانت تخشى مثل تلك الحركات. لقد تأسس اتحاد الشغل وكان سندًا للكفاح الوطني في زمن الاستعمار بفضل تلك الرجال الذين تغلب عليهم الوطنية قبل الدفاع على المصالح الفئوية والعمال، لأن الأصل تغلب وقتها على الفرع، وهكذا رأينا فرحات حشاد ذهب ضحية لتصفية بدنية من غلاة الاستعمار لما التقط المشعل عندما تم ابعاد زعماء الحركة الوطنية وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة من طرف الإقامة العامة لما اشتدت المقاومة ظنا منها بقطع الرأس سوف تنفرد بالصغار، لكنهم وجدوا وقتها حشاد لهم بالمرصاد، واستحال عليهم ايقافه خشية من علاقاته القوية مع المنظمات العالمية التي كان يخشاها المقيم العام وقتها (دي هوت كلوك Hauteclocque)فتمت تصفيته بدم بارد بواسطة اليد الحمراء، ولكن ذلك الدم الزكي تكلف عليهم غاليا وتسبب في انتهاء الاستعمار في تونس وفي كامل القارة الأفريقية التي استقلت أكثر بلدانها بدون جهد أو دماء إذ اجبرت فرنسا على الخروج منها بمجرد استفتاءً حفظا لماء الوجه وذلك في عهد رئيسها الجنرال ديجول الذي أنهى حرب تحرير الجزائر التي كلفت المقاومة الجزائرية مليون شهيد. ذلك هو تاريخ الاتحاد باختصار شديد قبل الاستعمار، أما بعد الاستقلال فكان الرافد الأقوى والأصح مع بقية المنظمات الأخرى للصناعة والتجارة والمزارعين على كلمة واحدة مع الحزب الحر الدستوري الذي تزعمه من وقتها الزعيم الحبيب بورقيبة قبل الاستقلال وبعده في زمن بناء الدولة وتصفية الاستعمار وإعلان الجمهورية بعدما تم إلغاء الملكية وما تلا ذلك من نجاحات وإخفاقات وهزات كان دائما الاتحاد طرفا فيها في أيام حمد بن صالح واحمد التليلي والحبيب عاشور وغيرهم من الأبطال والرجال. ذلك الاتحاد الذي كان دائما منحازا للمصلحة الوطنية، مساندًا لها في كل المعارك وحتى لو اختلف مع الحكومة لسبب فانه بسرعة يعود بعدما ينال منها الجزاء ويتصالح مع المجموعة وكأنه لم يقع شيء مذكورا انه لم يشارك في ثورة الحرية والكرامة في مستوى القيادة التي كانت متورطة في مساندة النظام السابق الذي استفحل أمره في الفساد وقامت عليه ثورة اجبرت رئيسه على الهروب. لكن قواعده كانت حامية لرجال الثورة في المناطق التي قامت فيها بسيدي بوزيد وقفصة والمتلوي والقصرين وصفاقس وغيرها مما لا أتذكر، فهي التي وضعت مقراتها على ذمة الثائرين أين احتموا من رصاص النظام الذي استعمله في الأيام الأولى ظنا منه أنها جمرة عابرة، ولكنها كانت صادقة زعزعت أركانه، فاستسلم وخير الهروب كي تنطفئ النار التي أشعلها ذلك الشاب الذي أحرق نفسه يأسا مما جري ويجري. رأيت ذلك الاتحاد، تلك المنظمة العريقة الأقرب للشعب، وكيف تضامن مكرهًا بفضل قواعده وأجبر على الانخراط في الثرة وكان مقره ببطحاء محمد علي منطلقًا لآخر مظاهرة جرت يوم 14 جانفي 2011 والتي بتنا نحتفل بها كل سنة واخترناها مع يوم 17 ديسمبر 2010 يوما وطنيا تتعطل فيه الإدارة احتفاء ويتكرر كل عام. إنه لم يكن محايدا فيما بعد الثورة وكان له الفضل في الحوار الوطني الذي أطفأ النار التي كادت ان تحرق تونس ونال مع شركائه جائزة نوبل للسلام إعترافا بعدما نجحوا في إبعاد نار الفتنة. لكنني رايته في هذه السنوات الأخيرة يحيد عن النضال وكثيرا ما تسبب في تدهور الأوضاع بإعلانه للإضراب العام لثلاثة مرات بالإضافة للإضرابات القطاعية المتعددة في التعليم والصحة والنقل وغيرها مما تسبب في اختلال التوازنات وتدهور الإنتاج وأكثرها لأسباب سياسية تدل على انخرام في التوازنات داخله. قد يكون لذلك مبرراته في الظروف العادية لان المقدرة الشرائية تدهورت كثيرا وباتت حالة العمال صعبت وكان من مهامه الدفاع بما أوتي من وسائل ومنها الإضراب. أما وقد بات الوضع يتطلب هدنة وقتية وجماعية للإقلاع بعد هذا الزلزال الذي هز البلاد بعد الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية فانه بات من أوكد الواجبات على الاتحاد المساهمة الفعلية والتلقائية لبناء الثقة والخروج بالبلاد من الحالة التي وصلت اليها من تدهور وخصام بين الأطراف التي باتت تتناحر على الحقائب الوزارية يمكن للاتحاد ان يكون حكما ومعينا وليس طرفًا فيها. لم يكن ذلك رأيي لوحدي بل كان رأي الثلاثة أرباع من التونسيين الذين صوتوا لرئيس الجمهورية اختيارا، وتلك حقيقة قدرت أن أذكر بها الاتحاد وأعلنها على رؤوس الملأ بصراحة اعتبارًا لخطورة القضية.