عمار يطّلع على أنشطة شركتين تونسيتين في الكاميرون    درجات الحرارة لهذه الليلة..    صفاقس : خطأ عند الانتاج أم تحيل على المستهلك    رئيسة المفوضية الأوروبية تزورهذا البلد العربي الخميس    6 مليارات لتسوية ملفّات المنع من الانتداب…فهل هيئة المخلوفي قادرة على ذلك    الصحفي كمال السماري في ذمّة الله    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    وزير الثقافة الإيطالي: نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس    تامر حسني يعتذر من فنانة    ملكة جمال ألمانيا تتعرض للتنمر لهذا السبب    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط حفظ الصحّة    أمين قارة يكشف سبب مغادرته قناة الحوار التونسي    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو إلى تنظيم تظاهرات طلابية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني    مصر.. تصريحات أزهرية تثير غضبا حول الشاب وخطيبته وداعية يرد    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    وزيرة الاقتصاد والتخطيط تترأس الوفد التونسي في الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية    التعاون والتبادل الثقافي محور لقاء سعيّد بوزير الثقافة الايطالي    ملامحها "الفاتنة" أثارت الشكوك.. ستينيّة تفوز بلقب ملكة جمال    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي البنزرتي في مواجهة نجم المتلوي    دورة اتحاد شمال افريقيا لمنتخبات مواليد 2007-2008- المنتخب المصري يتوج بالبطولة    استقرار نسبة الفائدة الرئيسية في تركيا في حدود 50%    فرنسا تعتزم المشاركة في مشروع مغربي للطاقة في الصحراء    وزيرة التربية تطلع خلال زيارة بمعهد المكفوفين ببئر القصعة على ظروف إقامة التلاميذ    عاجل: هذا ما تقرر في حق الموقوفين في قضية الفولاذ..    دورة مدريد للماستارز: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة 35 عالميا    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم السبت 27 أفريل    المجلس المحلي بسيدي علي بن عون يطالب السلطات بحل نهائي لإشكالية انقطاع التيار الكهربائي    خبير تركي يتوقع زلازل مدمرة في إسطنبول    عاجل/ نحو إقرار تجريم كراء المنازل للأجانب..    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    "حماس" تعلن تسلمها رد الاحتلال حول مقترحاتها لصفقة تبادل الأسرى ووقف النار بغزة    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طقس الليلة    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    تونس تسعى لتسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لليونسكو    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    تقلص العجز التجاري الشهري    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقابيون سابقون يتحدثون للشعب
أوجه التشابه والاختلاف بين الفترتين، والدروس الجوهرية لاستخلاصها بين قراريْ إضرابيْ جانفي 78 وديسمبر 2102:
نشر في الشعب يوم 15 - 12 - 2012

بقطع النظر عن تنفيذ الإضراب العام من عدمه، فان أخذ القرار في حد ذاته يعتبر مهمّا جدا خاصة في المرحلة الدقيقة من الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه بلادنا، وبما أن القرار هو الأول من نوعه بعد 26 جانفي 1978، فمن المهم جدّا ان نتعرف على تلك الفترة التي سبقت تنفيذ إضراب 78 والحيثيات التي برزت خلالها والعلاقات القائمة بين الاتحاد العام التونسي للشغل وحكومة بورقيبة...
ومقارنة كل ذلك بالفترة الحالية التي عاشتها بلادنا في الفترة الأخيرة وقُبَيْل الاضراب الاخير للاتحاد من أجل إيجاد عناصر التشابه والاختلاف بين قراريْ إضرابيْ 78 و 2012 واستخلاص ابرز الدروس الجوهرية من الفترتين...وفي هذا الصدد اتصلنا بمجموعة من النقابيين الذين عايشوا 78 وحالفهم الحظ ليشهدوا قرار إضراب ديسمبر 2012 وتمكنا، رغم ضيق الوقت، من محاورة عنصرا من قادة 26 جانفي 1978 وهو الأخ الصادق بسباس الذي استقبلنا بكل رحابة صدر وكان الحديث معه شيقا جدّا، كما استكتبنا النقابي السابق الأخ محمد الصالح الخريجي وهو أحد ابرز عناصر اليسار في الحركة النقابية الى جانب الأخ جنيدي عبد الجواد الكاتب العام السابق لنقابة التعليم الثانوي بين 70 و71 وفي نقابة التعليم العالي والبحث العلمي بين 81 و85، ثم حالفنا الحظ بالاتصال بالأخت منيرة جمال الدين حرم الأخ علي المحضي التي ذاقت شتى أنواع التعذيب في ايقافات 78 . من جهة أخرى، فقد حاولنا أن يشارك في هذا العمل مجموعة من الصحافيين، سواء الذين كتبوا في جريدة الشعب في تلك الفترة او من الذين كتبوا في صحف أخرى، وللأسف أيضا ونظرا لضيق الوقت لم نتمكّن الا من أخذ شهادة للأخ محمد العروسي بن صالح رئيس التحرير السابق لجريدة الشعب وأحد الصحافيين المكلّفين بالشؤون الوطنية في جريدة الصباح في 78.هذا ونشير الى اننا سنعود الى موضوع 26 جانفي1978 بشكل موسّع في ملف قادم خلال شهر جانفي القادم.
بين 78 و 2012 :
في وجوه التشابه
والاختلاف
أولا، منذ بدأ الاعتداءات المتكررة والمتصاعدة على دور الاتحاد، تذكرت ماعشناه كمسؤولين في صلب الاتحاد، أواخر 77 و78، كما تذكرت ذلك عندما عاش الاتحاد اعتداءات 85، فبرمجة هذه الاعتداءات تكاد تكون هي نفسها والهدف العميق أو البعيد هو نفسه ألا وهو محاولة تدجين الاتحاد والاستحواذ على سلطة قراراته، فلم تكتف النهضة أو الحزب الدستوري بتسريب عناصرهم صلب هياكل المنظمة بل ركنت الى المواجهة المباشر.
كذلك، ذكرني ما نعيشه اليوم في 2012، بالذرائع المعتمدة لتبرير هذه الاعتداءات، ففي الفترة السابقة وهذه الفترة، الاتحاد يقرر ردود الفعل والاضراب لأغراض سياسية والمقصود بها هي أغراض حزبية وهذا نظرا الى أن الاضراب ومكونات المجتمع المدني تعمل عملا سياسيا صلب المجتمع، وكما اتهم كل من نظام بورڤيبة وبن علي والآن النهضة بالعمل من اجل تقويض النظام لفائدة أحزاب اخرى ولا ننسى كذلك ان الشبه وارد بين ما حدث في 78 وما يحدث الآن في ان رأس الحربة وآلة التهجم والضرب هي ميليشيات لكن الفرق بينهما هو ان النظام السابق اعتمد على ميليشيات غير قانونية تماما ترأسها الصياح كما اعتمد على الشرطة، كما انها في يده، بينما في هذه الفترة اعتمدت النهضة على ميليشيا أعدّتها بصفة قانونية في شكل جمعية.
من جهة اخرى، اختلف الامر في الشكل الظاهري بسبب التوتر الذي أفضى الى إقرار الاضراب، ففي 78 لأسباب بالنسبة الى الاتحاد اجتماعية واقتصادية لكن بالنسبة الى السلطة هي اسباب سياسية بينما الاسباب في هذه الفترة اعتبرت سياسية صرفة وتصورت النهضة ان الاتحاد حاد على مهامه إذ طالب فيما طالب بإلغاء لجان حماية الثورة التي تعتبر نفسها الحامية الوحيدة للثورة، في الوقت الذي نعتبر جميعا في تونس ان مهمة من مهمات الاتحاد هي الدفاع عن تونس مثلما قامت به زمن الاستعمار، زد على ذلك ان التصدي لهذه الرابطات هو حماية اقتصادية واجتماعية.
إن إقرار الاضراب، حتى وإن كان اضرابا عاما، هو شرعي ومشروع وآلية إقراره، أي قواعد الاتحاد واطاراته وهياكله وبالخصوص الهيئة الادارية والمكتب التنفيذي، قد تم التشاور في صلبها ديمقراطيا ومسؤولا، هذا بالاشارة الى ان اضرابيْ هذه السنة وفي 78 قد احترمت فيهما كل ذلك.
محمد صالح الخريجي
الاتحاد ... أكبر قوة في البلاد بتاريخه المجيد ورصيده النضالي
للمرة الثانية في تاريخ البلاد يقرر الاتحاد العام التونسي للشغل الإضراب العام ليوم 13 ديسمبر 2012، وكانت المرة الأولى في 26 جانفي 1978 حيث كرّست القطيعة بين الاتحاد والحزب الدستوري الحاكم. ويلتقي إضراب 26 جانفي مع إضراب 13 ديسمبر المحتمل حول نفس المضمون ألا وهو الدفاع عن استقلالية المنظمة النقابية والتصدي لمحاولات تدجينها وتركيعها والذود عن الثوابت التي تأسست عليها وأصبحت من مقومات شخصيتنا الوطنية التونسية ومن الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها، ومن أهداف الإضراب العام في كلتا الحالتين إفشال المناورات التي يسعى من خلالها الحزب المهيمن إلى القضاء على الدور النقابي والوطني للمنظمة الشغيلة عن طريق اللجوء إلى ميليشيات مجندة للغرض.
ومعركة الاتحاد من أجل الاستقلالية النقابية ترمي جذورها في تاريخ الحركة النقابية والعمالية التونسية وكان الزعيم النقابي والوطني الفذ فرحات حشّاد يؤمن باستقلالية العمل النقابي ويفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي ولم يكن للحزب الدستوري آنذاك أي دور في تأسيس الاتحاد سنة 1946.
وقد بدأت هذه المعركة الفعلية من أجل استقلالية الاتحاد في أواسط الستينات إبان أزمة 1965 بين الاتحاد والحكومة بسبب التخفيض المشط للدينار ومطالبة الاتحاد بالتعويض، مما أدى إلى إزاحة الحبيب عاشور من قيادة المنظمة النقابية والزج به في السجن في قضية مفتعلة. وأوّل من رفع شعار الاستقلالية النقابية والتعددية السياسية في وجه الرئيس بورقيبة من داخل الحزب الحاكم في ذلك الوقت هو المرحوم أحمد التليلي الذي أجبر فيما بعد على مغادرة البلاد. لكن الأزمات بين الاتحاد وحكومات الاستقلال المتعاقبة منذ أزمة 1956 إلى حدود السبعينات كانت تُحلّ داخل الديوان السياسي للحزب الحاكم بتغليب شق على آخر من بين قادة الاتحاد، الذين كانوا ينتمون كلهم إلى الحزب الحاكم، حسب مشيئة رئيس الحزب.
غير أن المعركة الحقيقية والحاسمة من أجل استقلالية العمل النقابي بدأت تتبلور شيئا فشيئا من داخل الاتحاد نفسه في بداية السبعينات إثر رجوع الأخ الحبيب عاشور على رأس الاتحاد، ذلك أن تجديد النقابات وفتح أبواب الاتحاد على الأجيال الجديدة من العمال والموظفين والمثقفين، وأغلبهم من غير المنتمين إلى الحزب الحاكم، بدأ تدريجيا بتغيير موازين القوى داخل المنظمة النقابية وكان للزعيم النقابي الحبيب عاشور دور أساسي في هذا الانفتاح الذي جعل من الاتحاد قوة يُقرأ لها ألف حساب حيث أصبح الاتحاد يضمّ في سنة 1977 ما لا يقل عن 500 ألف منخرط. كما تميّزت هذه المرحلة بالبطالة وضعف الأجور رغم الانتعاشة الاقتصادية الهامة، وبحركية مطلبية فائقة حيث تعددت الإضرابات وشملت عديد القطاعات (قرابة 300 إضراب سنة 1975) لعلّ من أهمها إضراب التعليم الثانوي يوم 28 جانفي 1975 وإضراب النقل في 2 ماي 1976. وللتاريخ، فإن أول من رفع شعار استقلالية العمل النقابي من داخل الهياكل القيادية للاتحاد، بمناسبة انعقاد المجلس الوطني للاتحاد في 24 سبتمبر 1971 الذي دعي للتداول حول تمثيل الاتحاد ودوره في مؤتمر الحزب الحاكم، هو الكاتب العام لنقابة التعليم الثانوي المحسوبة على اليسار والتي أزعجت بعض الأوساط المتشددة في الحزب والدولة إلى حد أنها أصبحت تطالب «بتطهير الاتحاد» وهو ما تم فعلا بطرد الكاتب العام لهذه النقابة يوم 21 نوفمبر 1971 وبتجميد الهياكل القيادية لهذه النقابة الرائدة، لكن ذلك لم يمنعها من الصمود في وجه المناورات ومواصلة استقطاب العدد المتزايد من الأساتذة.
وقد مثل المؤتمر الرابع عشر للاتحاد الذي انعقد في مارس 1977 تحت شعار «من أجل نمو أسرع وتوزيع أعدل للثروات» المنعرج الحاسم الذي بدأت تتكرس فيه بصفة واضحة ومعلنة استقلالية الاتحاد وتم خلاله انتخاب الكاتب العام لنقابة التعليم العالي الأخ الطيب البكوش عضوًا في المكتب التنفيذي الوطني بدعم من الأخ الحبيب عاشور رغم اعتراض الرئيس بورقيبة على ترشحه. وقد اتهم بعد ذلك الحبيب عاشور بالتواطؤ مع اليسار. وبدأ الحزب الحاكم يخطط لضرب الاتحاد كي لا يكون مؤثرا في المعركة الضارية من أجل الخلافة. وبدأت الاستفزازات المنظمة التي أدت إلى استقالة عدد من الوزراء ثم استقالة الأخ الحبيب عاشور من الديوان السياسي للحزب وبعض قياديي الاتحاد مثل الأخ خير الدين الصالحي من اللجنة المركزية لهذا الحزب، وذلك بقرار من المجلس الوطني المنعقد بنزل أميلكار أيام 8 و 9 و10 جانفي 1978.
وأمام ردود الفعل العنيفة من قبل إدارة الحزب الحاكم، قررت الهيئة الإدارية للمنظمة النقابية الإضراب العام ليوم الخميس 26 جانفي 1978. وقد عاشت بلادنا في ذلك اليوم (الخميس الأسود) أحداثا دامية بعد أن حوصرت مقرّات الاتحاد منذ 24 جانفي 1978 بكامل أنحاء الجمهورية من قبل قوات الأمن وميليشات الحزب الحاكم التي يحاول بعض المسؤولين السابقين إنكار وجودها أصلا !
وقد أقدمت السلطة على محاصرة المكتب التنفيذي في مكان اجتماعه بنزل أميلكار لمنعه من الاتصال بهياكل الاتحاد وقواعده وقد زج بكامل أعضائه في السجن، كما حوصرت القيادات النقابية الوسطى داخل المقر المركزي للاتحاد قبل إيقافهم واعتقالهم بمقرات وزارة الداخلية حيث مورست عليهم أبشع أنواع العنف والتنكيل والتعذيب ومنهم من لقي حدفه بسبب هذه المعاملات الوحشية مثل المناضل النقابي من قطاع البنوك المرحوم حسين الكوكي أو الكاتب العام لجامعة المعاش والسياحة المناضل الصلب المرحوم سعيد قاقي الذي توفي يوم 9 جانفي 1979 بعد أن أصيب بمرض عضال وهو رهن الاعتقال من جرّاء ما لقيه من تعذيب وحشي.
ومنعت بذلك القيادات النقابية من تأطير الإضراب، كما اعتادت على ذلك، والسيطرة عليه والتحكم في سيره، حيث اعتبر إعلان الإضراب «تآمرا على أمن الدولة ومحاولة لقلب نظام الحكم عن طريق العنف والفوضى» وقد أعدّت لذلك الحجج الواهية والدلائل الكاذبة التي لم تقنع أحدا، وقع تدوينها قبل المحاكمة فيما سمّي ب«الكتاب الأزرق »سيّء الذكر الذي نشرته إدارة الحزب الاشتراكي الدستوري في ذلك الوقت كما وقع اعتمادها لإدانة القيادات النقابية الشرعية خلال المحاكمة الجائرة، بعد محاولة انتزاعها عن طريق شتى وسائل التعذيب والإكراه. ولم تمتنع قيادات حركة الاتجاه الإسلامي في ذلك الوقت من الدلو بدلوها في حملة التشويه الأزرق واصفة الإضراب العام الشرعي للاتحاد ب «الهيجة المفتعلة» وقد سلّطت على النقابيين احكاما قاسية من قبل المحاكم الاستثائية .
ولفهم الموقف الرسمي العنيف إزاء الحركة النقابية - وقد تجنّدت له مختلف دواليب الدولة من مؤسسات سياسية وقضائية وإعلامية وأمنية وعسكرية - فلا بد من اعتبار العوامل المختلفة التي قادت إلى هذا الموقف.
- العوامل الراجعة إلى طبيعة الحركة النقابية بعد أن اتخذت منحًى مغايرًا عن المنحى الذي أراده لها الحكم وحزبه، وأصبحت تعبّر تدريجيّا عن توجّه واضح نحو الاستقلالية تجاه السلطة.
- العوامل السياسية والإيديولوجية الراجعة إلى مفهوم الوحدة القومية الذي تآكل وأفرغ من محتواه ليصبح مجرّد غطاء تختفي وراءه مصالح بعض الفئات المستفيدة ونزعة الاحتكار الكلي للحياة السياسية في ظل الحكم الفردي المطلق والمعركة من أجل الخلافة ولإقصاء كل رأي مخالف بالاعتماد على القمع والترهيب والتضليل.
- العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة في ظل السياسة الليبرالية كما كرّسها النظام بعد القضاء على تجربة التعاضد.
لكن، رغم كل الإمكانيات التي سخرتها السلطة، فقد فشلت في سعيها لإقناع الرأي العام الوطني والخارجي بأن القيادة النقابية مجموعة (أو «شرذمة» كما كانت تنعت كل مخالفيها في الرأي ومعارضيها) من «المجرمين في حق البلاد والمتآمرين على أمنها»، كما فشلت في تعويض هذه القيادة رغم «المؤتمر الاستثنائي» الذي نظمته في 25 فيفري 1978 تحت الحراسة المشددة وفي ظل حالة الطوارئ، والذي ذهب طي النسيان وكان مآله أن أهمله التاريخ شأنه في ذلك شأن القيادة المنصّبة (ليس لهذا المؤتمر مثلا أي رقم في حياة الاتحاد!).
لم تفلح السلطة في الإقناع لأن الجماهير الواسعة من المواطنين والنقابيين قد تعوّدت من أجهزة الإعلام الحكومية والحزبية قلب الحقائق وكيل التهم وتوجيه شتى أنواع الشتم والثلب إلى كل من يعارضها أو يتجرّأ على نقدها مهما كان شكل هذا النقد وإن كان صادرا عن عضو بارز في الحزب الدستوري.
وهو ما جعل صمود النقابيين ضد هذه الهجمة الشرسة يؤتي أكله بفضل تجنّدهم حول مطالب موحّدة تتعلق أساسا باستقلالية الحركة النقابية وبالمطالب المشروعة للعمال والشغالين وبتشبّثهم بالشرعية النقابية، وبفضل تعاطف الفئات الواسعة من المجتمع مع هذه المطالب المشروعة. ولن ينسى النقابيون الدور الهام الذي لعبته جريدة «الرأي» في هذا الاتجاه حيث نجحت في تكسير حاجز التعتيم والمغالطة بعد الاستيلاء على المنظمة النقابية وعلى جريدة الشعب من قبل القيادة المنصبة. وقد تعدّدت أشكال الصمود من داخل الهياكل النقابية وخارجها، كما تعدّدت أشكال التضامن من داخل البلاد وخارجها. وقد نجح من صمد في عزل دعاة التصلب ومدبّري الخطّة الرّامية إلى القضاء على الحركة النقابية واستقلاليتها، كما نجحوا في حشد الطاقات الهائلة من النقابيين الأوفياء في تونس ومن المنظمات النقابية الدولية على اختلاف مشاربها، وفي جلب التضامن والدعم والمساندة من القوى الديمقراطية والتقدمية المتعددة الانتماءات في جميع أنحاء العالم.
هذا هو الدرس البليغ الذي يجب أن يستخلصه الماسكون اليوم بزمام الحكم حتى لا يضلّ بهم الطريق وحتى يستوعبوا تماما معنى الرسالة التي أراد الاتحاد وقادته من حاملي الأمانة الثقيلة لحشاد العظيم أن يوجهوها إلى كل القوى الحاكمة في البلاد حاليا، أو الطامحة للحكم غدا، أن الاتحاد عصي على كل من تحدثه نفسه محاولة السطو عليه أو تهميش دوره الوطني. فلا بديل عن الاتحاد العام التونسي للشغل في الحفاظ على توازن المجتمع واستقراره والدفاع عن مصالح القوى الكادحة وتحقيق الأهداف الحقيقية التي قامت من أجلها ثورة الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
وعلى الحكومة المؤقتة تحمل مسؤولياتها كاملة في إعادة بناء العلاقات السليمة مع المنظمة الشغيلة حتى ترجع الثقة إلى النفوس وتتوضح الرؤية للجميع. ولا بد لها من الدخول فورا مع قيادة الاتحاد في حوار بنّاء من أجل تطويق الأزمة وتحقيق المطالب المشروعة التي تقرّر من أجلها إضراب 13 ديسمبر وبالخصوص منها إيقاف التدهور الذي تسبب فيه تهوّر ما يسمّى ب «رابطات حماية الثورة » المدعومة من قبل بعض القيادات في حركة النهضة، وكذلك الحملات التكفيرية المسعورة لبعض الخطباء والدعاة المعادين للعمل النقابي الذين يوظفون المساجد لإشاعة التباغض والعنف وتأليب المواطنين بعضهم على بعض.
ولتنقية الأجواء وتأمين نجاح الانتقال الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة بأقرب السبل وأنجعها فلا بد من إعادة تفعيل المؤتمر الوطني للحوار حتى يتسنى لكل الفرقاء الالتحاق بهذه المبادرة الجريئة والشجاعة التي أطلقها الاتحاد خدمة لمصلحة كل الأطراف السياسية والاجتماعية المحكوم عليها بالتعايش الحضاري الديمقراطي وخدمة قبل كل شيء لمصلحة تونس التي يجب أن تبقى فوق كل اعتبار.
جنيدي عبد الجواد
*كاتب عام سابق لنقابة التعليم الثانوي (1970-1971)، ولنقابة التعليم العالي والبحث العلمي (1981-1985)
26 جانفي: بين الأمس واليوم
تسألني كيف عشت اضراب 26 جانفي 1978 وللاجابة اقول انني كنت صحافيا في دار الصباح في مصلحة الشؤون الوطنية ومن ضمن عملي تغطية انشطة الاتحاد العام التونسي للشغل حيث واكبت عديد المؤتمرات وتعرفت على عدد كبير من المناضلين على راسهم الزعيم الحبيب عاشور. وبذلك فهمت الكثير من الامور واصبحت ملما كثير الالمام بالشأن النقابي ومختلف تفاصيله. وبذلك ايضا عايشت أو واكبت تدحرج كرة الثلج التي ادت الى احداث 26 جانفي 1978.
لن اتحدث عنها بالتفصيل لان ذلك يتطلب مساحة واسعة جدا وجهدا علميا كثيفا لست قادرا على بذله في الوقت الراهن.لكنني أذكر انني في ذلك الصباح من يوم الخميس الاسود نهضت باكرا لانفذ مهمتي الصحافية المتمثلة في تغطية الاضراب العام من خلال الاطلاع على مدى الاستجابة للحركة الاحتجاجية من عدمها في المؤسسات التي تقع في محيط سكني في ذلك الوقت وهي كثيرة ومتنوعة بين وظيفة وعامة وخاصة.أذكر ان اول محطة لي كانت السوق المركزي بالعاصمة الذي كان خاليا او يكاد من الباعة ومن الزبائن ومن البضائع. سألت بائعا استجوبته للغرض عن سبب فراغ السوق فاجابني بالقول ان وسائل النقل لم تعمل وان سوق الجملة لم تعمل ولذلك لم يات الباعة.
مررت وتجولت في مختلف الانهج القريبة والبعيدة حتى وصلت مقر الاذاعة في شارع الحرية حيث فوجئت بجمع من العساكرمدججين بالسلاح يحرسونها وقريبا منهم انتصبت دبابة شخماء لم نكن متعودين على رؤيتها خارج الثكنات. وفيما كنت أسأل هنا وهناك وأدوّن بعض الملاحظات، بلغ الى مسامعي ضجيج ظننت في البداية انه صادر عن متظاهرين او عن مضربين قادمين في طريقهم الى البطحاء.وكلما اقترب الضجيج وتزايد تبينت في ثناياه ارتطام اشياء صلبة بالبلور ثم تكسر هذا الاخير على الارض.مرة اولى فثانية وثالثة فعاشرة وعشرين. اقتربت لأرى من يفعل هذا الأمر ولأفهم لماذا يفعله خاصة وانني كنت على علم بأن الاوامر صدرت الى عموم الشغالين المشاركين في الاضراب العام بان يلزموا بيوتهم تجنبا لاي احتكاك مع عناصر الميليشيا الحزبية التي جندتها ادارة الحزب الدستوري لتكسير الاضراب والاعتداء على العمال والنقابيين الذين ينفذونه وان لا يخرج إلى الشارع الا من هو ذاهب للعمل ضمن من استثنتهم قيادة الاتحاد من الاضراب وهم بعض العاملين في شركتي الكهرباء والمياه وفي المستشفيات وغيرها من المؤسسات التي لا تحتمل التوقف عن العمل. ويذكر هنا ان الحكومة في ذلك الوقت لجأت الى ما يسمى التسخير وهو الذي يقضي بفرض واجب العمل على اصناف معينة من الموظفين والعمال.
لنعد الى ذلك الضجيج فاذا هو صادر عن مجموعات من الاطفال والشباب يسيرون بل يجرون جماعات وكلما مروا امام واجهة بلورية الا وقذفوها بالحجارة وكلما انفجرت واجهة هللوا فرحا بل انهم صاروا يتبارون في سرعة القذف وفعاليته. بحثت عن مصدر الاشياء التي يستعملونها في القذف فاذا هي حجارة يتراوح وزن الواحدة بين 150 و200 غرام متوفرة في قفاف يحملها اشخاص يرتدون قشاشيب ويغطون وجوههم فيتولى بعضهم تزويد الاطفال والشباب بكميات منها حتى يستعملوها في تهشيم الواجهات ويعمل البعض الاخر على جمع ما رمي من احجار لاعادة استعمالها.رأيت مثل هذا الصنيع في شارعي الحرية وباريس كما رايتها بشكل اعنف في شارع فرنسا وبشكل ادق على المغازة العامة التي تم سرقة الكثير من بضائعها ولاستيلاء عليها.
كان اعوان الامن يحاولون الحيلولة دون تفاقم العملية لكن دون توفيق يذكر فما ان ينهروا أولئك الشبان او يبعدوهم من هذا الشارع حتى يعودوا او يذهبوا الى شارع آخر. لذلك استنجدت السلطة بالجيش ونصبت نقاط تفتيش في كل مكان ولاول مرة حتى ذلك التاريخ نرى في سماء العاصمة طائرة هيليكوبتر – وربما اكثر- تحلق على ارتفاع منخفض حتى لتكاد تصدم بعض العمارات. وجاء في شهادات عديد السياسيين والامنيين والحقوقيين ان مدير عام الامن الوطني في ذلك الوقت زين العابدين بن علي كان يمتطي تلك «الحوامة» وانه كان يطلق النار بنفسه على كل تجمع لمواطنيين حتى ارتفع عدد القتلى حسب بعض الشهود الى اكثر من 1200 قتيل وجرح اكثر من 3000 شخص.
الأزمة حلت بدار الصباح ايضا فعدد قليل فقط من العاملين امكن لهم الالتحاق بالمؤسسة وحتى من فعل كان متأثرا للغاية من فرط ما رأى من تكسير وحرق وعمليات دهم وتفتيش. كبار المسؤولين في المؤسسة كانوا في حيرة شديدة وخوف من ردود الفعل المحتملة على المؤسسة باعتبار وقوفها ادارة وعمال الى جانب الاتحاد منذ فترة طويلة قبل الاضراب فضلا عن المشاركة في تنفيذ الاضراب حيث ان الجريدتين (الصباح ولوطون) لم تصدرا يوم الجمعة 27 جانفي 1978.
لما استأنفنا العمل يوم 27 كان منع الجولان بداية من السادسة مساء ساريا. ولما كان احتمال عقاب دار الصباح على مساندتها للاتحاد ومشاركة اعوانها في الاضراب العام واردا من قِبَلِ ما كان يسمى في ذلك الوقت «لجان اليقظة»، فقد رفضت الادارة عرض وزارة الاعلام بان توفر لنا جوازات مرور حتى نستطيع التحرك رغم منع الجولان، ولذلك كنا نعمل نهارا ونقضي الليل كاملا داخل المؤسسة.
يمكن ان استمر في سرد الكثير من الذكريات في هذا الشأن لكنها ليست مهمة. الأهم اليوم ان نحاول استخلاص العبر.
صحيح ان التاريخ يعيد نفسه لكن في الاعادة بعض من المهزلة ووجه المهزلة الواجب ابرازه هو ان من دفع الى قرارالاضراب العام لم يتعظ بدرس الماضي ولم يقرأه القراءة الصحيحة بل اكتفى بعمل نسخ وتصوير رديئين، وبالتالي لم يكسب من العملية شيئا يذكر.بينما تصرفت قيادة الاتحاد الحالية بحكمة كبيرة في مناسبتين الاولى عندما وضعت فاصلا زمنيا كبيرا نسبيا بين يوم القرار ويوم التنفيذ تاركة بذلك الباب مفتوحا امام الوساطات وامكانيات الحل والحوار والتفاوض وهو ما حصل وثانيا عندما قررت الغاء الاضراب بالنظر الى ما حصلت عليه من التزامات. حسنا فعلت القيادة ايضا عندما فرضت التفاوض مع الحكومة كحكومة وفي مقرها بالذات ولم تفعله مع الحزب الحاكم ولا اي حزب آخر وهنا لا تجوز المقارنة بين نقابة وحزب كما لا يجوز الحديث في نظري عن خلاف بين الاتحاد وحزب –ولو كان حاكما- فالحزب يمثل منخرطيه فقط حتى لو كانوا بمئات الالاف - بينما يمثل الاتحاد جميع الشغالين، جميع الاجراء، سواء كانوا منخرطين فيه ام لا وهؤلاء هم بالملايين .
فمتى لم يرفض أجير واحد مكسبا حققه الاتحاد العام التونسي للشغل فهو بالضرورة ضمن الاجراء الذين يمثلهم الاتحاد ويدافع عنهم أما لدى الحكومة وهي اكبر مؤجر او لدى مؤسسات القطاع العام أو لدى الخواص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.