فيروس كورونا مع مهمته التدميرية التقليدية في التسلل للرئتين وإرباك التنفس، له أيضًا مهمة إيجابية في التسلل إلى النزاعات الإنسانية، فيقضي على بعضها، ويضعف بعضها، ويخلخل البعض الآخر.فعلى مستوى النزاعات السياسية الدولية أو الإقليمية تمكن فيروس كورونا إما من إصلاح ذات البين في الخلافات السياسية، وإما أقنع المتنازعين بالدخول في هدنة، وإما قادهم إلى تخفيف حدة التراشق الكلامي فتنازعوا بمفردات مقبولة بعد أن كانت مفردات نارية حادة.حتى النزاعات الحزبية والسباقات الانتخابية مرّ عليها الفيروس الكوروني، فاعترى أصحابها هدوء وسكينة، فبدأ المرشحون بفعل الرشح الفيروسي الكوروني وكأنهم في ندوة أكاديمية، لا في صراع انتخابي محموم، أضعف ضربة فيه تحت حزام المتنافسين.. والأسئلة التي تنبت على سطح الواقع: ما هي الصورة التي سيكون فيها العالم بعد نهاية أزمة "كوفيد 19"؟ وما هي التغييرات التي يمكن أن تطرأ على العلاقات الدولية، وهل ستشهد "القارة العجوز" ولادة فضاء أوروبي جديد يرتكز على التوازن والعدالة والتضامن بين الحكومات والشعوب؟ أم سيبقى هذا الفضاء رهينة الفكر الليبرالي المفرط..؟ تأثير هذا الوباء على العلاقات الدولية: فيروس "كوفيد 19" يهدد أمن العالم بأسره. ويجب بالتالي التفكير بمواجهته بشكل جماعي وعلى نطاق عالمي. في الحقيقة، الأزمة الصحية التي نمر بها تشكل خطرا كبيرا على سيرورة العلاقات الدولية. فهي قادرة على زعزعة هذه العلاقات في حال لم يتم وضع إطار عام يراعي المصالح السياسية والاقتصادية المتناقضة لجميع الدول والشعوب. وبما أن أزمة فيروس كورونا تحولت إلى أزمة عالمية، فهذا يشكل فرصة سانحة لإعادة النظر في العلاقات الدولية وجعلها أكثر توازنا وخدمة لكافة الشعوب. وإذا استخلصنا الدروس من الوضع الحالي، أعتقد أن وباء كورونا سيساهم في بناء علاقات جيوسياسية جديدة، خاصة وأن العالم مقبل على أزمة اقتصادية عميقة لا يدرك أحد نهايتها. لكن للأسف، سيكون هناك رابحون وخاسرون من هذه الأزمة. والرابحون بإمكانهم أن يؤسسوا نظاما دوليا جديدا يخدم مصالح الإنسانية جمعاء. ما أريد أن أقول؟ أردت القول أن اللحظات التاريخية والنادرة التي نعيشها اليوم كشفت بشكل واضح التوترات وعلاقات القوة التي كانت مخفية في الإطار القديم للعلاقات الدولية. طبعا لا يمكن أن نستخلص دروسا من هذه الأزمة في الوقت الحالي. كما يجب أيضا الابتعاد عن التأويلات البسيطة والاعتقادات الزائفة لبعض السياسيين وصناع الرأي، والذين يريدون استغلال أزمة "كوفيد 19" لتمرير خطاباتهم الداعية إلى الانغلاق على الذات وقفل الحدود مع تمجيد عنصر الهوية الوطنية على حساب الانفتاح على الآخرين والعيش في عالم متعدد الأقطاب. ختاما أقول: فيروس كورونا أجبر المجتمعات بكل طبقاتها على الدخول في دورة تعليمية مكثفة في كيفية التعلم عن بعد، والتسوق عن بعد، ومرافعات المحاكم عن بعد، وإنجاز المعاملات الحكومية والقطاع الخاص عن بعد، والسياحة عن بعد، ومشاهدة كل أنواع الترفيه والأفلام الهوليوودية والوثائقية عن بعد، وزيارة الأقارب والمعارف عن بعد. لقد اخترق فيروس كورونا الجهاز العصبي للبيروقراطية، وأمست القرارات تُنفذ في لمسة كيبورد، بعد أن كانت تتطلب أسابيع بل أشهرًا، وأحيانًا سنوات، وأولها الإجراءات المملة للموافقة الحكومية الأميركية على إقرار الأدوية، فقد رضخ الرئيس الأميركي دونالد ترمب لهذا الفيروس مقرًا بخطورته مستنجدًا بشركات الأدوية، واعدًا إياها بالاختصار الشديد للإجراءات البيروقراطية، بل بالرد الفوري على طلبات مصنعي اللقاحات والترياق. «كورونا» ضَبَطَ إعدادات العلاقات الإنسانية، بعد أن هز اقتصاد الكوكب الأرضي وطَوَّح ببورصاته وأخلى الملاعب والمسارح والأسواق العالمية، وقد تسنح له الفرصة، إن واصل انتصاراته مع البشر، أن «يفرمت» العولمة وأحادية القطب الواحد، فيعز الذليل ويذل العزيز. لقد عصفت جائحة كورونا بمجتمعنا وضربت به دون رحمة، خاصة وأن مجتمعنا غير جاهز وغير مجهز لمواجهة أزمات ثقيلة الوزن. لهذه الجائحة عدة جوانب، بتأثيرها الاجتماعي، وخاصة على العائلة، فحالة الحجر جمعتنا في بيوتنا، وقللت من حركتنا، وجمعتنا بأهلنا ونقلتنا إلى الحيز الخاص، ولكنها في هذا الوقت أبعدتنا عن عائلاتنا الموسعة وعن أصدقائنا وزملائنا في العمل ومناسباتنا الاجتماعية وغيرها. إنها فرصة للتفكير المعمق حول إعادة حوسبة المسار، وفرصة للعائلات المعيارية ميسورة الحال المتعلمة الواعية من أجل تقوية أواصر العلاقات الاجتماعية وتعويض الأزواج والأبناء على ما فات من ضياع ببناء رأس مالنا الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، والاستثمار في الوقت. هذه العائلات قد تستفيد من تداعيات الكورونا، ولكن هناك مجموعة أخرى قد تدمرها هذه الجائحة، وأخص بالذكر العائلات الفقيرة والعائلات المعنفة والعائلات التي تسير أمورها الحياتية بقوة الدفع. هذه العائلات قد يزداد فيها العنف والجنوح والفرقة والعدائية، وقد ترتفع عندها حالات الطلاق بسبب التواجد مع بعضها البعض، وحالات الفراغ الاجتماعي قد تكون هدامة. من المهم أن نزرع في أنفسنا وأبنائنا بأننا لسنا في سجن، ورب ضارة نافعة، ومن المهم جدا أن نزرع الأمل والتفاؤل والفرح وقراءة الكتب ومناقشتها داخل العائلة ومشاهدة الأفلام المعبرة والمسرحيات الضاحكة والتعالي على الصغائر ودب الروح الإيجابية، وهي وسائل تساعد على استقرار العائلة ومحاولة القراءة من جديد لشركائنا وأبنائنا، والتركيز على الإيجابي في شخصياتهم، وعدم التفكير في أزمات عصفت بنا قبل الكورونا. هذا قد يساعد ويجعل من البيت قلعة وانتماء وهوية أسرية، والكثير الكثير من الإحترام المتبادل..