يشكل "الألم" في نظرية الإبداع الأدبي القيمة الأشد توترا، تجربة ورؤيا لدى المبدع، وأداة إمتاع ومؤانسة لدى المتلقي. ويتضاعف تبئير "الألم" في الأعمال السردية، والرواية خاصة، من حيث إن لها طولا معلوما، وزوايا نظر مختلفة. بيد أن تجربة هذا "الألم" وإن كانت منطلقا لسرد الأحداث وتنامي مقومات المتون الروائية، سرعان ما تزداد عمقا أو تخفت حسب كل تجربة إبداعية، لاسيما عندما يتناغم الكون التخيلي للروائي مع الأحداث الواقعية، وبالتالي تتعمق إشكالات التلقي وفواصله بين حدود إمتاع القارئ وممكنات عيش الألم. سؤال التأرجح بين "الألم" والإمتاع في الإبداع الروائي ومدى ممكنات الكتابة عنه أو بحسبه، يطرح نفسه في كل نقاش أدبي حول خطاب الرواية، حتى بات بعض أهل النقد الروائي والإبداع العام يتساءلون حول استحالة أو إمكان الكتابة في الجنس الروائي تحت وطأة الألم أو خارجه، أم أن الكتابة الروائية وسيلة إمتاع وإلهام سيكولوجي أو نقل لتوترات مزعجة. الروائي التونسي المحسن بن هنية الذي تعج رواياته بالأحداث الدرامية، يبرز في حديث لي أن ذات الروائي واعية ومدركة تتأثر وتؤثر في محيطها الاجتماعي،وهو بالتالي حامل ومعبر عن مشاعره أو مشاعر المجتمع الذي يعيش داخله، سواء أكانت مشاعر الحب أو الألم أم اللذة أو الوجع أو غيرها من المشاعر الحاملة لهموم الفضاء المعبر عنه. وللقدرة على شد القارئ إلى نهاية الرواية واستمتاعه بها دور بارز في إبداعية أي رواية، لذا يبرز المحسن بن هنية الذي -في تقديري-يكتب بحبر الرّوح..ودم القصيدة-أن تسويغ الموضوعات للقارئ لأن تكون في صوغ سردي ملائم ومثير لجمالية التلقي،سمى التشويق،هو الوجه الضروري للإمتاع في الكتابة الروائية وإن كانت الرواية تحمل أحداثا مؤلمة. يضيف-المحسن بن هنية- أن مع هذا التشويق الذي يعتبر حيلة من الحيل السردية للإمساك بالقارئ، يتم تمرير كل الموضوعات الأخرى التي لا تكون في الغالب إلا موضوعات حزينة، بما أن الرواية منخرطة في الالتزام بقضايا المجتمع وهموم الإنسان. ويشبه الكاتب-المحسن بن هنية- الإبداع بلحظة ولادة إنسان جديد،شديدة الألم ومنتجة للحياة،وهو أيضا جزء من مسار حياة لا ينفصل عنها،أما بخصوص-تطور الرواية الحديثة-يقول-ضيفي بن هنية- مازال السرد هو الشكل الفني الأعرق والأكثر تميزا، بالرغم من الكثير من الدعوات أو المحاولات التي أعلنت نهاية عصر الرواية، لكن مازلنا إلى الآن نشهد استمرار الكفاح الجمالي لفن الرواية وتطورها لحظة بلحظة، فمنذ دون كيخوت حتى الآن،مازالت الرواية قادرة على مساءلتنا ومساءلة حيواتنا ودواخلنا،بل حتى مساءلة الرواية نفسها كفن وجنس أدبي. ثم يواصل الإضافة:"منذ نشأتها الحديثة -أي الرواية-وهي تعد بهذا الذي يتجسد الآن في انفتاحها كملكة عامة وصالحة للانكتاب بمعزل عن الطبقة الرفيعة، حيث كان الروائيون يطرحون مناهجهم في كتابة الرواية من خلال مقدمات ورسائل، يتضح من خلالها ذلك التنوع والاندفاع نحو تحطيم القواعد، أي الانتقال من اللاوعي الملحمي إلى الوعي البشري، أو ما سماه جورج لوكاش بملحمة العصر الحديث،أي التمثل المادي للوجود عبر الطبقة البرجوازية ابتداءً، لتتحول بتصور باختين إلى مشروع غير ثابت المزايا وقابل للتطوير الدائم،مبشراً بظهور شخصيات من القاع الاجتماعي أو ما دون الوسط، حيث أسست الطبقات الشعبية للرواية الحديثة وللغة الشعبية التي تنكتب بها، أي الاندفاع باتجاه الواقعية بكل شفافيتها، لتأكيد نظرية أن القاع الاجتماعي هو الذي أنتج الرواية الحديثة وليس قمتها،وهذا هو ما يفسر ازدحام المشهد الروائي بروائيين يتحدرون من الهامش الاجتماعي. وأشار-في سيا ق حديثه معي-إلى إلى أن قراءة عدد يسير من الروايات العربية التي صدرت في الآونة الأخيرة، والموزعة على مختلف مناطق العالم العربي بقدر ما تسمح به ظروف التواصل في النشر والتسويق،دون عناية بالتمثيل الجغرافي المحدد،أدت إلى تبلور بعض الملامح المميزة لثلاثة أساليب رئيسية في السرد العربي المعاصر،ترتكز على شكل التوافق بين ثلاث مجموعات ثنائية من العناصر الروائية هي الإيقاع والمادة والرؤية. وأوضح أن الإيقاع هو ناجم عن حركتي الزمان والمكان أساسا، كما أن المادة تتمثل في حجم الرواية، أي امتدادها الكتابي من ناحية،وطبيعة لغتها من ناحية ثانية.بينما تبرز الرؤية من خلال كيفية عمل الراوي وتوجيه المنظور.وأهم خاصية لهذا الطرح هو التعالق والتراتب،فالفصل بين تلك الوحدات إنما هو مجرد إجراء تحليلي يضع في اعتباره أصلا طبيعة تداخلها.فالزمان والمكان يتمثلان في مادة الرواية وحجمها: والراوي لا يمكن تحديد موقعه ولا منظوره إلا عبر المادة المقدمة،والمنظور يرتبط جذريا بحركة اللغة والحوار وهكذا. في ختام جديثه معي يقول الروائي التونسي المحسن بن هنية:" تنفتح الرواية على جملة من الاقتراحات السردية المختلفة، التي لا تبقيها في خانة واحدة، ولا تطرح صيغة أحادية لها، بل إنها تبرز بوصفها مجلى لعشرات التصورات عن العالم، والصيغ الجمالية، والبنائية المتعددة، فالرواية ابنة التنوع والاختلاف، وترميز دال على ذلك المنطق الديمقراطي للكتابة.وربما يشكل انفتاح النص الروائي على مجمل الخبرات الحياتية، والأحلام، والانكسارات،والهواجس،والإخفاقات هاجسا للكتابة،وملمحًا من ملامحها الحاضرة. ويشير -في سياق حديثه الشيق-إلى أن الرواية العربية في سعيها المتواتر لتدشين نفسها بوصفها عطاء جمالياً في مجرى الرواية العالمية، يبدو أنها قد التفتت إلى تخليق خصوصيتها التي تميزها،وهنا يصبح ما بذله الآباء المؤسسون والمطورون للفن الروائي وفي مقدمتهم الكاتب الروائي الفذ نجيب محفوظ، حاملًا دلالة مهمة على إنجاز نسبي للرواية العربية،يتجدد عبر جملة من النصوص الروائية المغايرة التي ترفد السردية العربية،والتي لا يمكن على الإطلاق أن نصنع حصراً لها،أو أن نتعامل معها بوصفها كتلة واحدة.. على سبيل الخاتمة: في سياق حديثي مع الروائي التونسي المتميز تونسيا وعربيا المحسن بن هنية أشرت-نسبيا-إلى بعض النماذج المجسدة لمظاهر من الصراع الإجتماعي في الرواية التونسية،وهي تنتمي مجتمعة للتيار الواقعي بفروعه الكثيرة وفي ذلك انتصار وانتظار:انتصار لنصوص اجتهد أصحابها من أجل طرح تصور يعتني بالفن من أجل القيمة والنقد، وانتظار لآفاق ممكنة تكون فيها النصوص أكثر جرأة من جهة ملامسة الواقع وأكثر طرافة من جهة الخيال،لأن الفن تقتله المباشرة. نقول ذلك ونبدي تحفظا في شأن نصوص كثيرة غيبت الواقع بحثا عن جمالية غائمة فغاب منها الفن والنقد. وندعو الكتاب -من هذا المنبر- الى تحمل مسؤولياتهم التاريخية لأن فعل الكتابة هو فعل حرية بالأساس، يتحرر من خلاله المبدع ذاتيا ويتطلع الى الحرية الأشمل،ولأن الفن هو صراع دائم من أجل أفق أرحب،ولأن الرواية بالأساس،هي تاريخ من لا تاريخ لهم،وهي إعادة إنتاج للمعرفة والقيم،ولأن قدر الكاتب -كما ورد في حواري مع الروائي المحسن بن هنية هو أن يقف دوما في صف الخاسرين،الذي هو صف الإعتراض من أجل الدفاع عن الحقيقة المغيبة،الحقيقة التي يجب أن تجد سبيلها الى النصوص الإبداعية المتميزة، تلك التي سيخلدها التاريخ باعتبارها مقاومة بأدوات الفن لكل مظاهر الفوضى والإرباك، وباعتبارها فضحا وتعرية لكل محجوب ولكل خفي في محطات تاريخنا المعاصر..