الانتماء إلى الدين أو قرار الالتحاق بالجماعة المؤمنة في التصور القرآني ليس مجرد اعتقاد نظري أو إيمان قلبي فقط وإنما هو إلى جانب ذلك منظومة قيم لها أثرها على أرض الواقع تشكل نظام حياة و منهجا في السلوك يعيش عليه ويحيا بمقتضاه الفرد وهذه الرؤية للدين التي تخرجه من قالبه الشكلي التعبدي الصرف لتجعل منه برنامج عمل يومي ونظام حياة شاملة بكل مقوماتها ومكوناتها ما يجعل من فكرة الدين فكرة عملية وانتماء حيا ومتحركا ومؤثرا في الواقع وهذا المفهوم هو حقيقة قرآنية يمكن أن نطلق عليها البيان الأول الذي يتعين على كل منتمي لدين إسلام الوجه لله أن يعلمه وهي حقيقة كانت حاضرة باستمرار في مسيرة الأنبياء الذين يبعثهم الله على فترات من الزمن لإصلاح انحرافات الأفراد وإخلالات المجتمعات وتعديل ما اعوج من معتقدات وتسوية ما شوه من تصورات وأفكار. نقرأ في صورة البقرة الآية 83 نصا مهما توجه به الله إلى بني إسرائيل في عملية ضبط لانحرافاتهم و إصلاح لمنهج حياتهم وتعديل في سلوكهم وطريقة عيشهم وهو نص على خصوصيته ينسحب على كل مؤمن وخاصة المؤمن المسلم أخذا برأي الإمام السبكي الأصولي الذي ذكره في كتابه الأشباه والنظائر" من أن العبرة في مثل هذه الأحوال بعموم اللفظ دون خصوص السبب بشرط عدم التعارض بين النص الخاص والنص العام طالما أن الفهم العام يستوعب الفهم الخاص ولا يلغيه . قال تعالى " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون " هذه الآية تتحدث عن البيان الأول الذي يتعين على كل منتمي إلى دين التوحيد - والخطاب هنا إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعلمهم على ماذا تعاهد الله مع اليهود - أن يعلمه وتتعرض إلى العهد الذي يقطعه الفرد لما يقرر الدخول في الإيمان وهو ميثاق يحدد حقيقة جوهرية تبين حقيقة إسلام الوجه لله وحقيقة الإيمان بالله وحقيقة الدين الصحيح كونه في التصور القرآني منهج حياة متكامل يقوم على جملة من المبادئ : المبدأ الأول : إفراد الله بالعبادة " لا تعبدون إلا الله " وما ينجر عن ذلك من نبذ لكل شرك مها كان نوعه على اعتبار أن الدين في التصور القرآني يتعين أن يكون لله وحده فهو المعبود ولا معبود غيره وهذه القاعدة هي قاعدة أساسية في البناء الإيماني ودونها لا يستقيم لا دين ولا إيمان. المبدأ الثاني : طاعة الوالدين " وبالوالدين إحسانا " إشارة إلى أهمية العائلة ومركزية الأسرة في الدين الصحيح واعتبار طاعة الوالدين محددا في صحة الانتماء إلى الدين والإيمان حيث لا يستقيم دين توحيدي من دون هذه الطاعة فهي في التصور القرآني تعد في مرتبة طاعة الله ومن مقتضياتها فلا إيمان بالله من غير طاعة للأبوين بما يعني أنه بالنسبة للفرد المؤمن لا قيمة لعبادته لله من دون طاعة لوالديه . المبدأ الثالث : البعد الاجتماعي التضامني للدين " وذي القربى واليتامى والمساكين " فلا يكون الإنسان مؤمنا حقيقيا ومسلما وجهه لله ما لم يكن البعد الاجتماعي حاضرا بكثافة في حياته وما لم يكن إحساسه بالفئات الضعيفة والمهمشة قويا ونابعا من هذا الإيمان وهذه قضية محورية في الإيمان وفي الميثاق الايماني و في التصور القرآني مهم التنبه إليها فالعهد والميثاق الذي يقطعهما مسلم الوجه لله على نفسه يقتضيان عدم الاكتفاء بمجرد الاعتقاد القلبي والإيمان الروحي حتى نقول بأن هذا الفرد هو مؤمن حقيقة أو مسلما وجهه لله على الوجه السليم وإنما وجب أن يصاحب و يرافق هذا الايمان الالتزام بالبعد الاجتماعي الذي يرعى الناس ويهتم بضعافهم وفقرائهم. المبدأ الرابع : معاملة الناس بالحسنى " وقولوا للناس حسنا " فلا يصلح إيمان ولا يفيد اعتقاد ديني من دون أن يخلف أثرا في السلوك ويعكس أخلاقا وتربية وآداب معاملة وقضية حسن معاملة الآخرين وإتباع منهج سلوك مثمر هي مسألة محورية في إسلام الوجه لله فلا إسلام ولا إيمان من دون إصلاح للسلوك فلا دين من غير سلوك حسن ومعاملة طيبة والدين الذي لا يثمر عند صاحبه طباع راقية في التعامل مع الناس هو دين أعرج و معوجا لذلك كان من الضروري الانتباه إلى العناية بالجانب السلوكي في حياة المؤمن ونحن بصدد صناعة المؤمن الصالح والفرد القريب من النموذج الايماني ودون ذلك فإن الميثاق الذي يأخذه الفرد مع الله ينتهي وتنتفي أغراضه ونتيجته انتفاء صفة المؤمن الذي أسلم وجهه لله. المبدأ الخامس : أداء العبادات " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " المثير في هذا الميثاق الايماني في كون التعهد بأداء الشعائر التعبدية قد ورد ذكرها في آخر بنود العهد والميثاق ولم يتم تقديمها مع الإيمان بالله مثلا للدلالة على أنها ليس هي الأولى في الالتزام الإيماني وعلى أنها إجراء متوقف على تحقيق إجراءات أخرى أكثر أهمية وأعمق أثرا منها وكونها غير مقدمة على المعاملات والسلوك وليست أهم من البعد الاجتماعي والبعد الاخلاقي وهي مسألة قليل ما يتفطن إليها من يدعي إسلام الوجه لله إذ غالبا ما تقدم العبادات وتعطى لها الأولوية القصوى في حين نجد السلوك هذا المؤمن عليل فاقد للحس الاجتماعي وهي إشارة إلى أن العبادات هي ثمرة للإيمان الصحيح والسلوك القويم والحس الاجتماعي المكثف ومن دون هذه المسائل فإن العبادات تصبح بلا قيمة وتتحول إلى مجرد حركات وإشارات وتمتمات . ما يمكن أن نستنتجه من هذا المبدأ لهذا الميثاق الايماني أن الدين الصحيح في التصور القرآني هو الذي يرتكز على معطى المعاملات قبل المعطى التعبدي الشعائري وأن مسلم الوجه لله لا يكون منضبطا للعهد ومنزويا ضمن الميثاق الرباني بمجرد أداء الواجبات التعبدية فقط وإنما صورة من أسلم وجهه لله تكون بما ذكرناه من إلتزامات . المبدأ السادس : التنبه إلى عدم التراخي أو الوقوع في الغفلة " ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون " وهذه مسألة مهمة جدا في دوام الالتزام بمحتوى العهد والميثاق وضمان احترام البيان الأول للدخول في حظيرة الإيمان لم يغفل عليها النص القرآني ذلك أن المرء غالبا ما تعترضه الغفلة والنسيان أثناء حياته الايمانية بحكم مشاغل الحياة وزحمة الاهتمامات الدنيوية فيحصل التراخي والفتور أثناء الطريق وتحصل الفجوة بين ما تعاهد عليه المرء مع ربه وما يقوم به في حياته وتحصل القطيعة بين المثال الأول والواقع المعاش لذلك من المفيد التذكير بضرورة اليقظة الدائمة وتجديد العهد مع الله باستمرار حتى يبقى هذا العهد الذي أراده الله دستورا للمؤمن مفعلا في كل آن وحين لذلك ختم القرآن هذا البيان الإيماني وهذا الميثاق بقوله تعالى " ثم توليتم إلا قليل منكم ". ما يمكن أن نستنتجه من هذه الوثيقة التعاقدية التي يبرمها من قرر أن يسلم وجهه لله هو أن الدين في جوهره وحقيقته ليس كما يروج له البعض من أنه علاقة فردية بين الفرد وخالقه ورابطة روحية تربط المتدين بالخالق من دون أن يكون له أثر في الحياة وفي السلوك والمعاملات وإنما الدين الحق إلى جانب كونه عقيدة وإيمان قلبي هو أخلاق وسلوك وعلاقة اجتماعية لها أثرها في الواقع وانعكاساتها في الحياة ومن دون كل هذه المعطيات يصبح الدين مبتورا ومنقوصا وغير ذي جدوى عملية بل لعلنا نجزم بأن الدين الاجتماعي الذي يغلب الجوانب الإنسانية والحياتية التضامنية للإنسان مقدم على الدين الفردي الذي يحصره صاحبه في الاعتقاد لا غير ويجعل منه رابطة عمودية في حين أن الله أراده علاقة أفقية وعمودية معا .