يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: ( وما كان القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) س يونس 37, ومقصود هذه الآية أن القرآن العظيم هو كلام الله جل وعلا لا ريب فيه ووحيه المنزل على نبيه المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن كل ما جاء فيه حق ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) س فصلت 42, وهو فوق قدرة البشر, وأسرار الإعجاز فيه ليست من إدراك الناس, وفيه البيان والبرهان لما شرعه الله عز وجل للإنسان ذي القدرات المحدودة في علاقته مع خالقه سبحانه وتعالى, فكان القرآن والسنة معجزة للناس جميعا بغرض بيان أن القرآن حق وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به في رسالته. لقد جرت حكمة الله جل وعلا أن يؤيد أنبياءه ورسله بالمعجزات الباهرة والدلائل والحجج والبراهين المعجزة للتدليل على صدق دعوتهم لله تعالى وقوة حجتهم, ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مميزة بالإعجاز للبشر وعمل على تبليغها بأجمل أسلوب وأوقع معنى وبلاغة باهرة, فعندما يستمع الإنسان إليه أو يتمعن في صيغ حديثه المشرف تتحرك مشاعره الدينية شوقا ويهتز قلبه خشية وتمتلئ نفسه خشوعا واطمئنان, وتتجلى أوجه الإعجاز في السنة من خلال تميز أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بالدقة مع الفصاحة وبالإيجاز مع سعة المعاني ( ما قلت ألفاظه ودلت مقاصده ), ويرى فيها علماء اللغة والحديث أسلوبا لم يسمع فيه الناس قط بكلام أعم نفعا ولا أصدق لفظا ولا أعدل وزنا ولا أجمل نظما ولا أكرم منطقا ولا أحسن وقعا ولا أسهل مخرجا ولا أفصح معنى من كلامه صلى الله عليه وسلم, وعندما سأل أصحابه الحديث أنزل الله جل وعلا على رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم الآية 23 من سورة الزمر ( الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني ... ) أي أن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه المصطفى قرآنا يشبه بعضه بعض في النظم والمقصد لا اختلاف فيه ولا تضاد ويصدق بعضه بعض ويدل بعضه على بعض, ويثنى فيه القضاء والأحكام والحجج والوعد والوعيد, وقد يكون في ذلك وجه من أوجه الإعجاز في النص القرآني, وفي الآية تأكيد على أن القرآن الكريم هو أحسن الحديث وهو المرجع والسند للسنة النبوية الشريفة التي تحمل الحديث النبوي الشريف الذي لا ينطق على الهوى وإنما هو وحي يوحى, وفيه تشريف وتكريم للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم, فكان القرآن العظيم هو المعجزة الخالدة التي كرم الله تعالى بها نبيه ورسوله المجتبى ومن ورائه الأمة الإسلامية. يرى أهل العلم المتفقهين في الدين أن التفكر في آيات الله والتدبر في القرآن العظيم هي المسلك السالك لتناول موضوع الإعجاز في القرآن والسنة - وهو من الاتساع والشمولية والتعقيد - من خلال التمحيص والبحث المعمق في آيات كونية خلقه وقرآنية كلامه للوقوف على أوجه الإعجاز في القرآن العظيم ومن ذلك في السنة النبوية الشريفة, والتفكر في آيات الله والتدبر في القرآن عبادة من أرقى العبادات وهي عبادة معرفة الله جل وعلا التي هي أصل الدين على معنى الآية الكريمة ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )س محمد 24, وقد أخذ العلماء منها وجوب التدبر والتفكر في آيات القرآن والعمل بما فيها من هدى وإرشاد وأمر ونهي وآداب وأحكام في السعي إلى معرفة الله وطاعته وعبادته, وفي الآية 82 من سورة النساء يقول الله تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) أي تناقضا كثيرا وتفاوتا, وبالتدبر والتفكر فيه يقفوا على عدم التناقض فيه ويعرفوا صدق ما يخبر به وأنه كلام الله لا ريب فيه من لدن حكيم حميد. ومن أعظم أوجه الإعجاز التي يقف عليها كل متدبر في القرآن الكريم وكل متفكر في آيات الله جل وعلا اليقين التام في وجود قوة إعجازية خارقة وهي قوة الخالق عز وجل وراء المنظومة الكونية وما فيها من مكونات تديرها قدرة إلاهية إعجازية ليست من إدراك البشر كما يستشف من معاني العديد من الآيات الكريمة : ( ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ),( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) س آل عمران 189-190, ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ),( وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ),( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ) س الأنبياء 30-32-33, وفي كل هذه الآيات البينات ما يفيد وما يؤكد لدى كل متدبر ومتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى اليقين التام بأن السماوات والأرض وما فيهن وما بينهما من الشمس والقمر والكواكب والأجرام والبحار والجبال والصحاري وسائر المخلوقات والكائنات ومختلف المنظومات التي تحكمها هي من خلق الله وحده جل وعلا وهي من ملكه وحده وهو الذي يديرها وحده بقدرته الخارقة لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير. ومن آيات الله سبحانه وتعالى الإعجازية أن خلق الإنس والجن وخلق المحيا والممات وهو يحيي العظام وهي رميم, وهو الذي (... لا يشرك في حكمه أحدا ) س الكهف 26, أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر وحده ولا يشرك في خلقه أحدا, وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده بعد فنائه إلى حالته الأولى عند البعث للحساب فيثيب الطائع ويعاقب العاصي, ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) س الروم 27, وفي كل آيات الله عز وجل دلالات بينة وبراهين ساطعة على ألوهية الله وعظمته وقدرته الإعجازية لكل متدبر ومتفكر في خلقه وهو الحكيم في خلقه وصنعه وفي حكمه وشرعه سبحانه وتعالى عما يصفون. تناول الفقهاء والعلماء والباحثون أوجه الإعجاز القرآني ومن أهمها: ° الإعجاز البياني, إذ يتميز النص القرآني بالبلاغة في أجلى صورها وأبرز فصاحة اللغة العربية وأضفى عليها البلاغة, وأعجز بيانه الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بمثل أقصر سورة أو آية فيه, فكان المعجزة الخالدة للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم والحجة القاهرة والبرهان الساطع التي تستند إليه السنة النبوية المشرفة بما أكسبها أفصح أسلوب وأبلغ معنى وأحسن وقعا لنشر رسالة الإسلام. ° الإعجاز الروحي والمادي, إذ جاء القرآن العظيم منظما لأمور الدين والحياة فربط بين الأولى والآخرة وجمع بين الروحاني والمادي في وجدان الإنسان ووفر له طمأنينة القلب وراحة النفس مع مراعاة الفطرة البشرية, وهي أمور فيها من الإعجاز ما ليس من إدراك البشر. ° الإعجاز الغيبي, وفيه كل ما أخبر به القرآن الكريم عن نشأة الكون منذ ما قبل وما بعد خلق أبينا آدم عليه السلام, وما فيه من أحداث ووقائع ماضية لم يشهدها الرسول صلى الله عليه وسلم, وفيه ما تضمنه من أنباء حول مستقبل الدهر إلى قيام الساعة مما انتهى إليه العلم ومما لم يزل في علم الغيب إلى اليوم, وفيه " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله " (حديث أخرجه البخاري) وجاءت في الآية 34من س لقمان ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ), استأثر الله تعالى بعلمها ولا يجليها لوقتها إلا هو مثل علم الساعة ( قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ...) س الأعراف 187, ويأتي في نفس السياق قول الله تعالى ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر ... ) س الأنعام 59. ° الإعجاز العلمي, إذ أفصح القرآن العظيم عن بديع صنع الخالق جل وعلا في الكون من السماوات والأرض وما فيهن وفصل بينهما بقدرته الخارقة وخلق المحيا والممات والإنس والجن وكل المخلوقات والكائنات, والبشرية غير مدركة لهاته الحقائق ولأسرارها التي لا يعلمها إلا بديع منظومتها جل وعلا وهو القائل (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) س الإسراء85. ويستنتج مما سبق أن حقيقة الإعجاز القرآني بمختلف أوجهه لا ريب فيها, وهي تعني في المطلق أن البشر عاجزون حقا على أن يأتوا بمثل ما جاء في القرآن الكريم مصداقا لقوله تعالى (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) س الإسراء88 . والحقيقة المطلقة والبليغة هي وحدانية الخالق جل وعلا, فالخلق واحد والخالق واحد لا إله إلا هو وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, فسبحان الله خالق كل شيء عما يصفون, الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد ورحمة الله وبركاته. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله, نسأل الله السداد والتوفيق والأجر والثواب, الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين .