جاء انتشار فيروس الكورونا إلى أوروبا و فرنسا بالذات ليؤجل مظاهرات ما يسمى (أصحاب الميدعات الصفراء) التي عمت فرنسا ثم أصابت عدواها أغلب مدن الإتحاد الأوروبي كنوع من التضامن الثوري و رفض السياسات الاجتماعية (الفرنسية و الأوروبية) بعد أن اتهمتها منظمات المجتمعات المدنية (و ليس النقابات) بأنها تكرس الظلم الاجتماعي و توسع الهوة بين الأغنياء و الفقراء و لم تكن الزيادة في سعر الوقود سوى القطرة التي أفاضت كأس الطبقات الضعيفة (رغم أن الأجر الأدنى الفرنسي 1350 يورو يساوي ثمانية أو تسعة أضعاف الأجر الأدنى في بلدان جنوب حوض المتوسط مثل تونس و المغرب و موريتانيا و مصر و السودان) و كأنما أنقذت الكورونا حكومة الرئيس (ماكرون) من معضلات مزعجة أحدثت بلبلة إجتماعية و كسورا في البنية الإجتماعية الفرنسية يصعب جبرها فتأجلت المظاهرات منذ مطلع مارس و استجاب الناس لتعليمات الصحة و الحذر بانضباط أدهش المراقبين بالرغم من أن ما يسمى (فن الحياة) في فرنسا يعتمد على ارتياد المقاهي و المطاعم و المسارح و المهرجانات و السفر مع العطل المدرسية الى السياحة! ثم أعلنت الحكومة بأن الفيروس في انكماش و أن الحجر الصحي يتقلص إلى مستواه الأدني فاندلعت ثورة أمريكية عارمة ضد العنصرية بسبب قتل (جورج فلويد) الأمريكي من الأصول الإفريقية تحت ركبة شرطي وهو يستغيث (لا أستطيع أن أتنفس) و كانت هذه الجريمة العنصرية هي التي أعطت إشارة الإنطلاق لأكبر حركة إحتجاجية أمريكية منذ 1968 (مقتل مارتن لوثر كنغ) و سرت عدوى العنف الأمريكي إلى مدن فرنسا ثم كندا و أستراليا و باقي أوروبا لأن الشباب الفرنسي (خاصة الأقليات السوداء و المغاربية) تذكر أن الشاب الفرنسي الأسود (أداما تراوري) مات تحت ضغط شرطي فرنسي أثناء إيقافه عام 2016 و تقول أسرته أن المحكمة برأت الشرطة أنذاك و عمت المظاهرات مدنا فرنسية عديدة تطالب بنفس ما يطالب به الأمريكيون من ضرورة القضاء النهائي على ظاهرة العنصرية لكن بأقل عنفا نظرا إلى أن الإختلاف بين المجتمعين الأمريكي و الفرنسي جاء من ردود فعل الرئيس ترامب و ماكرون حيث أذكى (ترامب) دون تقدير للعواقب لهيب الفتنة بنعت المتظاهرين بالرعاع و المخربين بينما إتخذ الرئيس الفرنسي إجراءات حازمة فألغى بعض وسائل الإيقاف التي تعتمد على خنق المقبوض عليه و أعلن السيد (كاستينير) وزير الداخلية أن الحكومة قررت (التسامح صفر) إزاء كل سلوك عنصري من الشرطة. فكان هذا السلوك الفرنسي متعاملا مع العنف بالتهدئة و تفهم الأسباب و معالجة الظاهرة. و من جهة أخرى و في نفس السجل تابعنا صباح الخميس 18 يونيه على التلفزيون إشراف الرئيس (ماكرون) على إحياء وطني لذكرى (نداء 18 جوان 1940) في جبل (مون فاليريان) هذا المكان الذي أعدم فيه النازيون الألمان مئات الرهائن المقاومين ومنهم بعض التوانسة و المغاربيين و السينغاليين عرفناهم حين تليت أسماؤهم ضمن الشهداء. العبرة هي في أن اليمينية العنصرية (مارين لوبان) جاءت الى (مون فاليريان) بقصد الإستيلاء على تراث الجنرال ديغول و تبني مجده لكن المواطنين هناك أطردوها بهتافات DEGAGE LES FACHOS (إرحلوا يا فاشيون) فهربت من الحجارة المنهالة عليها. في فرنسا كل الناس يعرفون التاريخ و يميزون بين الأصيل و المقلد! و أنا في هذه المواقف تذكرت بلادي و تشابه الأحداث بل و حتى الوجوه و الغايات بسبب جهل أغلب التونسيين للتاريخ لأن المؤرخين و العلماء يملؤون البلاتوهات هنا في فرنسا لإنارة الرأي العام بينما تلفزاتنا تبث برامجها العادية بنقل تعليقات مهرجين بسطاء أصبحوا يتمتعون بنعت جديد هو (كرونيكور) أي معلق و لا ترى على شاشات تلفزاتنا أي مؤرخ أو عالم اجتماع ليوعي الجمهور بالتاريخ و أسباب انتشار العنف و طرق علاج أمراض الأمة. قال عالم الاجتماع الفرنسي الأشهر (إدغار موران) بأن ثقة المواطنين إذا اهتزت في حكامه فالعنف هو الذي ينشأ تلقائيا لإلغاء القانون و بث الفوضى! و لعلكم لا تدرون أن إحصائيات وزارتي العدل و الداخلية في فرنسا أكدت أن سنة 2019 سجلت 5735 جريمة اعتداء عنصري بالعنف اللفظي أو المادي أي بزيادة 30% عن سنة 2018 و أن إحصائيات منظمة الأممالمتحدة للاجئين أكدت أن في العالم 82 مليون لاجئ سنة 2020 بينما كان عددهم سنة 2010 لا يتعدى 40 مليون! هذا لنؤكد أن العنف في فرنسا أو في أمريكا و في العالم سيتصاعد إذا ما لم نحد منه و نستأصله بتغيير السياسات و استخلاص العبرة بجرأة.