تمر بنا هذه الأيام وتحديدا يوم 9 جويلية الجاري أربعينية السياسي ورجل الثقافة والدبلوماسي القدير المرحوم الشاذلي القليبي الذي وافته المنية يوم 13 ماي المنقضي وبهذه المناسبة يطرح من جديد سؤال الثقافة في تونس بعد الثورة وتثار مرة أخرى قضية السياسة الثقافية للدولة في ظل الجمهورية الثانية لارتباط حياة ومسيرة ومنجز المرحوم الشاذلي القليبي بالمسألة الثقافية وبالرهان الثقافي الذي عولت عليه دولة الاستقلال في بناء مجتمع متماسك ومتطور ومتحضر كان الشاذلي القليبي أحد الفاعلين فيه بل لعله من دون مبالغة مهندس السياسة الثقافية في تونس المستقلة وأحد الذين أعطوا للإعلام الثقافي الدور المتقدم في تنمية المجتمع وتحقيق نهضته والتغيير من حاله وأحد الذين آمنوا بأن الإنسان لا ينهض من دون وعي ومكتسبات روحية وفنية وعقلية وأن المجتمعات لا تتقدم من دون ثقافة متطورة وعصرية. نعيد اليوم طرح المسألة الثقافية في تونس وواقع الإعلام الثقافي في هذه المرحلة التي تمر بها البلاد بعد تسع سنوات من الثورة في علاقة بغياب سياسة إعلامية و مشروع ثقافي الكبير يحددان الملامح الكبرى لتونس الغد ويحدد طبيعة المجتمع المستقبلي بقيم مختلفة عن قيم الفساد والفوضى والتعايش مع الاستبداد ويجيب على سؤال أي إنسان وأي مجتمع نريد ؟ وفي علاقة بغاب سياسة إعلامية واضحة تحدد رؤية ثقافية ونظرة معرفية لقيمة الثقافة بمعناها الواسع وبأبعادها المختلفة في بناء مجتمع سليم ومتماسك وبقيم معاصرة ومبادئ إنسانية كونية من دون البتر مع القيم الأصيلة والمرجعية التونسية المتجذرة في ثقافتها العربية الإسلامية. نعيد طرح المسألة الثقافية في علاقة بالنظرة التي كانت تحكم الرئيس الحبيب بورقيبة للعلم والمعرفة والثقافة وبالإستراتيجية الوطنية التي راهنت عليها الدولة الوطنية في تغيير المجتمع وتطويره حيث تفطن الزعيم بورقيبة إلى الدور المحوري الذي تلعبه الثقافة في عملية التحديث وأهميتها في فك ارتباط المجتمع مع واقع التخلف والتراجع الحضاري وقيمة الفكر والمعرفة في حياة الشعوب وأهمية الإعلام في بث الوعي لذلك راهن على الإعلام المرئي وكان يستعمل التلفاز للتواصل و تثقيف الشعب والفرد والأسرة من خلال المضمون الذي تنشره خطبه ومقتطفاته اليومية وزاد على ذلك بأن أسس وزارة للإعلام والثقافة وضع على رأسها المفكر الشاذلي القليبي الذي يحسب له أنه هو من هندس السياسة الثقافية في الزمن البورقيبي التي غيرت من وجه البلاد وساهمت في بث الوعي المواطني والنهوض بالفرد وتأهيله للانطلاق نحو فضاء المجتمعات المتقدمة . نطرح موضوع المسألة الثقافية وغياب المشروع الثقافي الجامع الذي يعول عليه في تنمية المجتمع للتذكير بأن الثقافة بأبعادها الروحية والمادية والمعرفية .. والثقافة بمفهومها الواسع من فنون وسينما ومسرح وموسيقى وفكر وغير ذلك كان خيارا استراتيجيا للدولة التونسية ورؤية القيادة السياسية وإرادة الرئيس بورقيبة في أن يعلب الاعلام الدور المحوري في عملية التثقيف والتنوير الذي راهن عليه من أجل تحديث المجتمع وتحقيق النقلة النوعية التي جعلت منه من بين الشعوب العربية القليلة التي يتوفر لها قدر محترم من الوعي ومن الذائقة الفنية والأدبية والقدرات المعرفية والتعليمية. نطرح موضوع المسألة الثقافية في علاقة بغياب سياسة ثقافية بعد الثورة وتراجع الإعلام الثقافي لصالح نوع آخر من الثقافة والإعلام يقوم على التسلية البلهاء وتتفيه العقول وثقافة الإلهاء وتغييب الوعي ثقافة غايتها تحقيق الربح المادي وكسب أعلى نسبة من المشاهدة فالذي يشد المتلقي والمتابع اليوم للإعلام ليس المضامين النوعية والراقية وإنما البرامج التي تزيف وعي المواطن وتتلاعب بعقول المشاهدين بإتباع سياسية إعلامية موجهة غايتها الربح المادي لا غير وفي هذا السياق وفي ظل تراجع الدولة عن التدخل في المجال الثقافي و بعد تخلى الإعلام العمومي عن دوره في انتاج برامج ثقافية وبعد تخلف الدولة في وضع خطط وإستراتيجية ثقافية للمجتمع فإن السؤال الذي يطرح ويحتاج فتح حوار عميق يتعلق بمدى تواصل قيام الرهان على الدولة والإعلام العمومي في رسم سياسة ثقافية وصناعة إعلام ثقافي ؟ أم أن التحولات التي شهدها الإعلام يجعل من هذا الرهان خارج إطار القطاع العمومي وإنما هو اليوم مجال تدخل القطاع الخاص والاستثمار الخاص . وفي هذا المستوى فإن الهاجس المطروح هو أنه إذا كانت الدولة لم تعد بمقدورها وضع سياسة إعلامية وإرساء استراتيجية ثقافية للمجتمع فهل يمكن لقناة خاصة تنشد الربح المادي أن تضع سياسة ثقافية للقناة ؟ هل يمكن للمستثمر الخاص في قناة أو إذاعة خاصة أن يراهن على نسبة معقولة من البرامج الثقافية وفق رؤية مدروسة حاملة لقيم حضارية غايتها بناء مجتمع قادر أن ينهض وترنو إلى تحقيق تنشئة اجتماعية للإفراد ؟ في الحقيقة الإجابة واضحة وهي أن المستثمر الخاص في قطاع الاعلام لا يمكن أن يطلب منه وضع سياسة ثقافية توجه المجتمع كما لا يطلب من الخواص أن يراهنوا على الإعلام الثقافي طالما وأن المشروع الخاص سواء كان في الإعلام أو في غيره غايته الأولى تحقيق الربح المادي لذا فإن المطروح اليوم هو أن تعود الدولة لمهمتها الأساسية في تبني الرؤية الثقافية الشاملة للمجتمع وأن يعود للإعلام العمومي رهانه على الثقافة في تكريس القيم المجتمعية التي يحتاجها المجتمع من منطلق أن لا نهضة للبلاد ولا تقدم للمجتمع ولا ارتقاء للفرد من دون مشروع ثقافي جامع يقول المفكر الماركسي انطونيو قرامشي " اذا كانت العلاقات الاقتصادية عند ماركس هي محرك التاريخ فإن الوعي له أهمية في تغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية وهذا كله لا يتحقق إلا بالمثقف والثقافة " و يقول المفكر الإيراني على شريعتي " إن مواصلة نداء الوعي والخلاص من التخلف وإنقاذ الفرد من أوحال التراجع هو عمل لا يقوم به العلماء لأن دورهم منح الحياة أكبر قدر ممكن من الامكانيات وإنما هذا العمل يقوم به المثقف والثقافة التي ترشد إلى الطريق وتدعو إلى السفر والمثقف هو حادي القافلة الذي يكون على وعي بالتناقضات الاجتماعية فدور المثقف يشبه دور الأنبياء ودور الثقافة يشبه دور الشرائع والكتب السماوية".