عشت وشاهدت وتابعت فتبصّرت وسجلت تجارب وحالات وتحولات وتغييرات كثيرة، في أماكن متعدّدة من هذا العالم الذي أفسده الإنسان، تصديقا لتكهنات الملائكة إجابة لربهم سبحانه، وهو يعلمهم بأنه جاعل في الأرض خليفة فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ أفسد وأسفك ولا يزال وما زال. شاهدت، وشهدت على، كيف يُطاح بالقانون أو يُمسخ، فيُعتدى على كل الحقوق والحريات، فيُذلّ الإنسانُ أخاه الإنسان فيدوسه، وكيف يُحترم القانون، فيأتي التحول والتطور، بالتدرج من القانون إلى القانون كي يُضمن بلوغ الغاية في سلم وأمان. غاية الأول، أي الإطاحة بالقانون، هي كل ما هو شرّ في الأنسان، وغاية الثاني، أي احترام القانون، إظهار وترسيخ ما في الإنسان من خير، فتسخيره لفائدة الإنسان وموطنه. كان أملي، كي لا أقول يقيني، ومثلي أكثرية المواطنين، أن الحالة الثانية ممكنة، يل متأكدة الحدوث بتونس، لكن الواقع أثبت خطأ اليقين، وانتثار الآمال، برياح شرور الإنسان وطمعه وغروره. لست في حاجة لوصف الأوضاع في وطننا أسير أبنائه الشاردين الضالين، فطوال عقد لا يُكتب ولا يُقرأ، ولا يقال ولا يسمع، سوى وصف وتحليل صورة تونس، وانحدارها إلى أسفل المستويات سياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا، وأخلاقيا، واستقلاليا، فها هي رهينة الركود والجمود، وخطر الإفلاس وما يتبعه من أسر وتبعية. قرأت قبل أيام قلائل، مقالا أو هو تقرير، بلغة أجنبية، كاتبه تونسي، عضو بأحد مراكز الدراسات والتحاليل الاستراتيجية، فنزل وقع وصفه الوضع بتونس، والأرقام التي برهن بها فأكدت وصفه، نزل عليَّ كالصاعقة، جعلني أبكي وأتحسّر وأسأل، أين المخلصون العارفون القادرون، وفي طليعتهم أهل القانون، فما لهم لا يعملون؟ ووطنَهم وأنفسّهم يُنقذون، مما هم له عارفون؟ سمعت، بل قرأت للكثيرين منهم، من بينهم رئيس الدولة وليس هو بالدون، فكلهم مجمعون على وجوب التغيير مع احترام القانون. جميل كل هذا وكما نقول شعبيا " على الراس والعين ". لكن ليُسمح لي بسؤال، هل احترام القانون يعني قبول الجمود؟ هل يعني الرضا بالعسر والإفلاس؟ هل القانون يقبل بأن تتدهور البلاد وشعبها حتى يصبحا طعمة المطامع الداخلية والخارجية؟ هل تطبيق القانون يؤدّي إلى تجويع ثلثي الشعب بترك الحبل على الغارب؟ هل احترام القانون والعمل به، معناه ترك العصابات المتعدّدة الأنواع والغايات، تعيث في البلاد فسادا، ولا ردع إلا لمن عثر حظه؟ كم أكون سعيدا لو أجابني من هو بالقانون عارف، وبتطبيقه قدير، فشرح لي " قانونيا" ما أنا له من الجاهلين، حتى تطمئن نفسي، ولو أن الاطمئنان بعيد المنال، في بلد أضاع سبيله، لأن "المتحكمين" فيه وفي مصيره يلعبون ويستهترون. لا حاجة اليوم للمرء في دراسة القانون ليعلم ما أصبح شائعا يعلمه الكبير والصغير، لأن المنطق يؤيده، وجميع الشرائع سماويّها ووضعيّها، حرّمته وأدانته. فالظالم، والمعتدي، والسارق، والمحتال، والغاصب، والمختلس، وملحق الضرر بالأشخاص أو ممتلكاتها، والمعطل غيره عن العمل وأداء الواجب، والمنتحل شخصية غير شخصيته، أو تقلد اسما مزيّفا، وخاصية ليست من خواصه، هو مذنب مدان شرعا وقانونا، بعد الإدلاء بالحجة والبرهان طبعا، وما ذلك على من يريد بعزيز. قد يكون لكل الحالات والذنوب التي ذكرتها، وغيرها كثير، تسميات مختلفة في لغة القانون، فليحوّلها من أراد إلى لغة القانون، فذلك لا يزيدها إلا وضوحا. أما أنا فسأطلب من القارئات والقراء المحترمات والمحترمين، أن يسايروني فيلقوا معي نظرة على المشهد التونسي المحزن المزري، وليتبصّروا معي مليّا، فسيجدون عدد المعرضين للتهمة والإدانة، يصعب على الضعيف في الرياضيات مثلي، عدّهم وإحصاءهم. لنبدأ بالقمّة، ونستعرض ما يُسمّى خطأ " مجلس نواب الشعب" بينما الأجدر والأصحّ تسميته " مجلس مصائب الشعب". لأن أعضاءه نواب عن أحزابهم، وهذا يجعلهم مدانون بتقلص شخصية مزيفة فيدانون. ثمّ إن لا أحد منهم يستطيع إثبات " طهارة " تمويل حزبه، وهو ما يعرّضه، والمسؤولين عن الحزب في المقدّمة، لأكثر من تهمة قد تعرّض المدان منهم لسوط من سياط القانون. لزيادة الإيضاح وسعيا لمزيد الفهم، لابد من التعرّض لدور المجلس وأعضائه. أليس دورهم الرئيسي مساندة الحكومة بتتبع برامجها ومنجزاتها، والحرص على صلاحيتها وفائدتها، وحسن تطبيقها وتنفيذها، لصالح الشعب والوطن؟ فما الذي يجري فعليّا منذ أمد لم يكن يتصوّره عاقل في تونس؟ لا شيء غير المساومات، والمناوشات، والتهديدات، والمناورات، وما يخجل المرء من ذكره لدنوّه وسفالته، التي لا تليق بأي مجلس يحترم نفسه. ليتصرّفوا كيف شاءوا، فبالنسبة لنا " اللي هازز قربة على ظهره تقطر" ولا تهمنا إلا النتيجة. فهذه هي الأخرى، مع الأسف، سلبية فتدين المتسبّب في سلبيتها. إن تصرّفات أعضاء المجلس، عرقلت الحكومات عن العمل، وهذه إدانة. أضرّت بمصالح الشعب، وهذه إدانة أخرى. جمّدت أو تسبّبت في تجميد مشاريع حيوية للبلاد، فكلفوها خسائر مادية واجتماعية، وهي إدانة أخرى. عرقلوا سير الحياة السياسية، فتعرقلت الحركة الاقتصادية، أفلست من جرائها شركات، فأجبر على البطالة أعداد من العمال، وهذه سلسلة من الإدانات لا مفرّ لها من القانون. استلموا مرتبات لم يؤدّوا واجبهم بموجبها، فلست أدري كيف يسمي القانون المبالغ التي استلموها، لكن شعبيا يقال " أكلوا رزقا حراما". هذا بعض من كثير. أما إذا وسّعنا التبصُّر، فشمل التصرفات الشخصية خارج المجلس، مثل التدخل في هذه العملية أو تلك، أو التوسط لتوظيف قريب أو حبيب، احتجنا إلى مجال غير هذا المجال. كذلك لو تركنا المجلس ودخلنا الوزارات والإدارات، لخرجنا بما يشبه ما ذكرناه ووصفناه، معظمه عيوب وذنوب، لا يسلم أكثرها من سوط القانون لو وجد يدا مصممة تريد تطبيقه. لذا أتساءل وأسأل: أين أنتم يا أصحاب القانون وأهله؟ أما حان وقت خروجكم من صمتكم، كي لا أقول سلبيتكم، فترفعوا راية القانون وسوطه، فيجازى المحسن ويعاقب المسيء، وما الرابح من ذلك إلا الشعب والوطن، ولكم منها العرفان والشكر. ما الذي يُنتظر لتطبيق القانون وتسليط عقابه، على من تثبت إدانته، بالسرعة والصرامة التي يفرضها الوضع ويُجبر بها الحال؟ أتريدون أن نظن بكم سوءا؟ أو نصدق ما يراج ويشاع ونحن له مكذّبون؟ أم تريدون أن يحدث ما لا تحمد عقباه؟ إننا لا نصدق شيئا مما يقال ويشاع، ولا نفسّر غياب التحرّك والصرامة، إلا بتغلّب الطيبة واللين، خصلتان حسنتان لا تصلحان لمن أراد سوءا، لأنه، حسب المثل الشعبي المتداول بين النساء خاصّة " دواء الفم النتن، إلا السواك الحار". ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: خاطب الناس بما يفهمون؟ فليُخاطب المفسدون، المُعرقِلون نشاط وحركة البلاد والعباد، باللغة التي يفهمونها، وليكن ذلك قبل أن يعمّ الطوفان. مدريد 20-7-2020.