لقد تحدث الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي في مذكراته عن الرئيس الراحل زين العابدين بن علي فقال انه رئيس غامض وغريب وغير عفوي... وانني لاظن واحسب ان ساركوزي كان دقيقا في وصف شخصية هذا الرجل وانه قد اصاب كبد الحقيقة كما يعبرعن ذلك عادة الكتاب الأقدمون في كتبنا الأدبية العربية القديمة العتيقة فالتونسيون قد عرفوا هذا الرجل ما يقارب الربع قرن لكنهم يكادون ان يجمعوا انهم لم يعرفوه عن حقيقته بل ان الكثيرين منهم بل ان اغلبهم بل كلهم تقريبا قد سمعوا باشاء كثيرة عن سيرته لم يسمعوا عنها في زمن وعهد ومدة رئاسته فاما عن غموض هذا الرجل فهو امر واضح على ملامحه بلا شك وبلا جدل فالتونسيون لا يتذكرون انه قد تحدث يوما عن عائلته ولا عن طفولته لا عن شبابه ولا عن اصدقائه ولا عن شيء من ذكرياته ولكانه (قطعة حبل جابها واد )كما يقول ذلك اهل هذه البلاد او لكانه (قمر طاح) كما يقول ذلك اهل الفصاحة واهل التعبير المنير الواضح الوضاح او كانه (مقطوع من شجرة )كما يقول ذلك اخواننا المصريون اذا ارادوا الحديث عن شخصية مجهولة الهوية اومبهمة او نكرة ...على خلاف الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي حدثنا كثيرا في خطبه عن اصله وفصله وعن ابيه وعن امه وعن اصدقائه وعن صحبه وعن طفولته وعن شبابه وعن طموحه وعن غرامه وعن احلامه ... حتى اصبح لدى التونسيين كتابا مفتوحا مقروءا واضحا مفسرا مشروحا اما عن غرابة خليفته بن علي فهي امر ثابت بلا جدال فالرجل كان يضحك بحساب وفي شيء من الأضطراب وهو يتفرس في وجوه الحاضرين وكانه في حالة ضيق اواحراج وكان ينظر الى من حوله نظرات غامضة غير بريئة وغير تلقائية وكانهم عنده متهمون يريد ان يعرف حقيقتهم هل هم صادقون في حديثهم معه ام انهم كاذبون منافقون كما انه لم يكن يطيل في محدثيه النظر وكانه قلق لوجودهم معه او كانه ينتظر منهم بعض الشر او يتوقع منهم الخطر كما انه لم يكن يطيل مع محادثيه في الكلام ولكانه عاجز عن اجراء محادثة عادية من البدء الى الختام... انني لا اذكرابدا ان بن علي قد اجرى حديثا صحفيا يبث تلفزيا مباشرة الى المشاهدين بل كان الصحفيون ينقلون عنه كلاما ويقولون انه افادهم به في لقاء مغلق ذات يوم او ذات حين اما عن افتقار الرجل الى العفوية فهو امر ثابت مؤكد فيه بصفة واضحة بينة جلية اذ ليس من العسير ان يلاحظ كل من يشاهده وهو يتكلم او يتحرك ان كل ما يصدر عنه كان من قبيل التصنع او الاصطناع وانه لم يكن طبيعيا ولا تلقائيا بل كانه قد اعده و تدرب عليه لدى مدرب او لدى اخصائي في فن الاستخفاء باللثام اوبالقناع على عكس بورقيبة رحمه الله الذي كان يتكلم ويتحرك ويفكر ويشير ويعبر بكل جوارحه وبصفة عفوية تلقائية وكانه جالس مع اقرب الناس اليه في بيته او في جلسة عائلية طبيعية والدليل على ذلك ان بورقيبة كان يتخلل احاديثه وتدخلاته وخطبه بالنوادر وبالطرف وبالنكت مما يدفع سامعيه الى الضحك والانبساط رغما عنهم ولكانهم امام صديق من الأصدقاء اوقريب من الأقرباء ولا شك ان نكت بورقيبة ونوادره مازالت محفوظة لدى الكثير من التونسيين الذين شاهدوه والذين عاصروه سواء اكانوا اصدقاءه ومن مناصريه او كانوا من اعدائه ومن معارضيه وانني لاذكر عل سبيل المثال تلك الطرفة التي رواها بورقيبة عن احد زملائه في التعليم الذي وجد صعوبة في حفظ بعض قواعد الكيمياء وكان مغرما بحفظ المتون فاراد ان يحفظ التركيبة الكيميائية للماء فقال فيها على طريقة وعلى نمط واسلوب اصحاب المتون(الماء مزيج من اوكسيجان وهيدروجان من ذا اتوم ومن ذا اتومان) ومثل هذه الطرفة في خطب بورقيبة وفي احاديثه كثيرة تدل على انه ذو شخصية متكاملة طبيعية في جوانب وفي اركان وفيرة ...الم يصدق اذا ساركوزي في ما قاله بعد تثبت وبعد روية عن صفات الرئيس الراحل بن علي وهي الغموض والغرابة وانعدام العفوية؟ اما اذا كان في التونسيين من يرون ان ساركوزي قد اخطا في نسبة هذه الصفات الى هذا الرجل فليردوا عليه ان استطاعوا الرد بما يقنعنا ويقنعه من صادق البراهين ومن دوامغ الحجج المطلوبة في كل رد وفي كل نقاش وفي كل جدل.