غادرنا منذ أيام قليلة المرحوم أحمد بن صالح السياسي والنقابي المعروف وأحد المناضلين البارزين في الحركة الوطنية وأحد المؤسسين الآباء للدولة الحديثة والمساهمين في استقلال الوطن وأحد السياسيين الذين تركوا بصمتهم في تاريخ البلاد خلال مرحلة مفصلية عاشها الشعب التونسي كانت منعرجا حاسما في مسيرة التنمية وبناء الدولة على أسس اقتصادية أريد لها أن تكون متينة هذا المنعرج سماه السيد عبد السلام القلال أحد ولاة الزمن البورقيبي المنعرج الخطأ في كتابه " الحلم والمنعرج الخطأ" لكلفته الباهظة على الدولة والشعب وعلى حياة المرحوم أحمد بن صالح خلال عشرية كاملة عرفت بفترة التعاضد وتطبيق الفكر الاشتراكي سياسة للحزب و الدولة. وبهذه المناسبة الأليمة التي اهتز لها وجدان الكثير من التونسيين من الذين يعرفون الفقيد عن قرب وعايشوا تجربة التعاضد وفترة تطبيق الاشتراكية خيار الدولة الاقتصادي في بداية الاستقلال في فترة كان فيها الرئيس الحبيب بورقيبة في حاجة إلى نظرية اقتصادية يقود بها البلاد ويكمل بها رؤيته السياسية بعد فشل خيار الليبرالية التي طبقتها الدولة وتبناها الحزب الدستوري في السنوات الأولى بعد الاستقلال فكان بورقيبة يبحث في تلك المرحلة عن مقاربة جديدة وحل ينقذه من المأزق الذي وقع فيه خاصة وأن نقطة ضعفه كانت المجال الاقتصادي والمالي فكان الاختيار على أحمد بن صالح الذي قدم له مشروعا وبرنامجا اقتصاديا اقتنع به لتحقيق ما كان ينشده و يبحث عنه و يحقق به النقلة النوعية التي كانت تنقص المشروع الذي حلم به بورقيبة و يعضد النقلة السياسية التي تحققت باختيار الجمهورية نظاما سياسيا للدولة .. بهذه المناسبة الأليمة خيرنا أن نتحدث عن أحمد بن صالح من خلال العودة إلى كتاب مهم ولكنه قليل التداول تعرض فيه صاحبه إلى جوانب مما حصل في الأيام الأولى للاستقلال من صراعات داخل الحزب الدستوري حول من يتزعم قيادة الدولة ؟ وصراع آخر حول أي الخيارات الايديولوجية تصلح للبلاد ؟ وصراع ثالث بين الأجنحة التي كانت حول الرئيس الحبيب بورقيبة والتي كان الزعيم أحمد بن صالح أحد ضحايا هذا التطاحن الذي دمر الكثير من المناضلين وهي وقائع تفسر من زاوية معينة ما حصل لتجربة التعاضد ؟ وكيف تمت الإطاحة بأحمد بن صالح بعد أن كان محل ثقة كبيرة عند الزعيم بورقيبة ؟ والدور الذي لعبه الجناح الليبرالي بقيادة المرحوم الهادي نويرة حتى يعرف أحمد بن صالح المصير الذي عرفه هو وفكرة التعاضد الذي أقنع بها بورقيبة لفترة قصيرة. يقول الدكتور الصحراوي قمعون صاحب كتاب " نويرة وبورقيبة : السلطة بين الاقتصاد والسياسة والاستحقاق الديمقراطي " اختارت الدولة التونسية على غرار أغلب البلدان الحائزة على استقلالها النهج الاشتراكي فروح العصر في بداية الستينات من القرن الماضي كان التوجه نحو البلدان الشيوعية التي طبقت الاشتراكية نظاما للحكم وهو نظام يقوم على التخطيط المركزي وإمساك الدولة بدواليب التخطيط والتنفيذ باعتبارها أكبر مالك للثروة الوطنية و قد اختار الحزب الدستوري هذا التوجه في مؤتمره السابع المنعقد بمدينة بنزرت في شهر أكتوبر من سنة 1964 النهج الاشتراكي أو ما أطلق عليه " الاشتراكية الدستورية ذات التوجه الانساني " وبناء على ذلك تم تغيير تسمية الحزب الدستوري الحاكم ليصبح " الحزب الاشتراكي الدستوري " وقد تحمس الرئيس بورقيبة لهذا التوجه الجديد وأعطى الضوء الأخضر لتبنى خيار الاشتراكية ونزل بثقله التاريخي لإقناع الجميع بصحة هذا الخيار الاقتصادي ولكن المرحوم الهادي نويرة الذي كان وقتها يشغل منصب محافظ البنك المركزي كان رافضا لهذا التوجه وقد غبر صراحة عن رفضه لهذا الخيار في الكثير من المقالات الصحفية وكذلك في اجتماعات الحزب الحاكم ودخل في سجال علني مع مهندس ومنفذ السياسة الاشتراكية وبرنامج التعاضد الوزير القوي أحمد بن صالح الذي يحظى بثقة عالية عند بورقيبة وكان الرجل الثاني في النظام وقتها حتى أنه كان يلقب بصاحب الوزارات لجمعه خمس وزارات حيوية في نفس الوقت. لم يكن أحمد بن صالح بعد أن آمن بورقيبة برؤيته الاقتصادية وبعد أن تبنى الحزب الحاكم الاشتراكية خيارا اقتصاديا للدولة في طريق مفتوح كما أن تطبيق تجربة التعاضد الذي خطط لها لم تكن هي الأخرى تلقى القبول الكبير داخل الحزب وفي صفوف الدستوريين حيث ظهر منذ الوهلة الأولى من توجه الزعيم بورقيبة نحو المعسكر الشرقي واختياره النهج الاشتراكي وتطبيق التعاضد تيار قوي داخل الحزب تبنى الخيار الليبرالي وأراد فرضه على الدولة وقرر إفشال تجربة التعاضد مهما كلف الأمر ومن هنا ظهرت العداوة للمرحوم بن صالح والعداء للنهج الاشتراكي في الدولة وقد كان الهادي نويرة أقوى المعارضين لأحمد بن صالح ما جعل السجال الفكري والإيديولوجي الاقتصادي ينحصر في تلك الفترة بين مدرستي أحمد بن صالح والهادي نويرة و انتقل هذا السجال داخل أطر الحزب الحاكم وظهر الانقسام في صفوف الدستوريين وكانت جريدة " العمل " و " لاكسيون " الناطقين بلسان الحزب الاشتراكي الدستوري تنقل على أعمدتها هذا الخلاف الحاد بين الرؤية الاشتراكية والرأسمالية وقد ساهمت مقالات الهادي نويرة وانتقاداته اللاذعة لسياسة التعاضد التي بدأ في تطبيقها أحمد بن صالح في التسريع بإفشال التجربة إلى جانب الأخطاء التي حصلت في التطبيق خاصة ما تعلق منها بالتسريع في تعميم التجربة على قطاعات أخرى غير الفلاحة إلى التجارة والصناعة و تزامن تطبيق التجربة مع ما عرفته البلاد من جفاف كبير أدى إلى حصول أضرار فادحة بمصالح الكثير من أبناء الشعب الذي تنكر للتجربة ورفضها بعد حصول تجاوزات كثيرة في التطبيق الأمر الذي هدد النظام بالدخول في أزمة خطيرة وقد اعترف أحمد بن صالح في حديث صحفي نشرته مجلة " رياليتي " بالفرنسية في 10 مارس 2005 بأن استعجال تعميم التعاضد بقرار من بورقيبة كان خطأ. لقد فعل الجناح الليبرالي المعادي للتوجه الاشتراكي في الدولة والذي تزعمه الهادي نويرة كل ما يقدر عليه لإفشال التجربة الاشتراكية وسياسة التعاضد وتحويل إعجاب بورقيبة بالاشتراكية ومهندسها أحمد بن صالح إلى نقمة ورفض خاصة بعد أن بدأت تصل إلى الزعيم بورقيبة تقارير سياسية وأمنية داخلية أجمعت على وجود رفض شعبي لسياسة افتكاك أرزاق المواطنين إضافة إلى تراجع الانتاج في مختلف القطاعات الاقتصادية بشكل يهدد بإفلاس الدولة وهي تقارير تطابقت مع تقارير أخرى صادرة عن المجموعة الاقتصادية الاوروبية وعن البنك الدولي نبهت إلى تردي الاوضاع وفشل التجربة كل ذلك جعل بورقيبة يتخذ القرار المصيري ويوقف تجربة التعاضد والاعتذار للشعب التونسي وإقالة أحمد بن صالح ومقاضاته في ماي 1970 .