تزامن صدور كتاب الأستاذ الطاهر بوسمة "مذكرات والي في الزمن البورقيبي " الصادر سنة 2015 والذي خصص جزءا مهما منه للحديث عن تجربة التعاضد وقدم مقاربة موضوعية للسياسة الاقتصادية التي اتهجتها القيادة السياسية سنوات قليلة بعد الاستقلال وعرض وجهة نظر تساعد على فهم التجربة الاشتراكية التي عرفت بسياسة التعاضد و كتاب الأستاذ سالم المنصوري " أحمد بن صالح وزمانه " الصادر في سنة 2018 الذي حاول فيه صاحبه أن ينصف المناضل أحمد بن صالح صاحب أهم وأبرز تجربة اقتصادية في تاريخ تونس المعاصر وأن يرد الاعتبار لرجل دولة قدم رؤية تنموية لإخراج البلاد من حالة التخلف ووضع منظومة اقتصادية كان من المؤمل أن ترتقي بالبلاد إلى مصاف الدول المتقدمة قبل أن يتنكر له الجميع ويدير له الرئيس بورقيبة ظهره بعد أن حمله كامل المسؤولية في فشل التجربة الاشتراكية وهو الذي تحمس له في البداية ، مع صدور كتاب ثالث لا يقل قيمة عن الكتابين الأولين بل ربما يكمّلهما في موضوع واحد هو موضوع تجربة التعاضد التي تنسب لأحمد بن صالح عنوانه " الحلم والمنعرج الخطأ " للسيد عبد السلام القلال الذي كان واليا في الزمن البورقيبي عن ولاية الكاف وهو كتاب صادر عن دار الجنوب للنشر عدد صفحاته 485 صفحة أشرف على نشره الأستاذ أحمد ونيس وقدم له الوزير الأسبق الاستاذ الشاذلي القليبي تناول فيه تجربة التعاضد التي سلكتها الدولة في الستينات من القرن الماضي عرفت بتجربة أحمد بن صالح كما عايشها عبد السلام القلال في ولاية الكاف لما كان واليا عليها تم تقديمه في مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية يوم الاربعاء 6 مارس الجاري في إطار ندوات " أربعاء الباحث " فكرة الكتاب تدور حول الحلم الذي راود جيل التأسيس الأول أو ما يعرف بالآباء المؤسسين في تحسين أوضاع الشعب التونسي وتحقيق التقدم للبلاد بعد أن حققت استقلالها من المستعمر الفرنسي هذا الحلم تحدث عنه الزعيم الحبيب بورقيبة في العديد من خطبه وهو وضع نظام اقتصادي يحقق الثروة ويوفر مواطن شغل للشعب التونسي ويجعلها تلتحق بمصاف الدول المتقدمة ويطور المجتمع نحو حداثة معاصرة تجعلها تواكب العصر. هذا الحلم فرض على الدولة الناشئة أن تركز في البداية كل جهودها في بناء دولة حديثة وتأسيس نظام سياسي متين وعصري فكان مشغل القيادة السياسية بعد الاستقلال الاهتمام باستكمال الاستقلال وتونسة جميع القطاعات والمؤسسات الحيوية واسترجاع السيادة على الأراضي الفلاحية من المعمرين وإحلال الكفاءات التونسية محل الأجنبية في الادارة ومؤسسات الدولة وقد تطلب الاهتمام بالجانب السياسي للاستقلال مواصلة الاعتماد على النظام الرأسمالي طريقا للتخلص من التبعية الاقتصادية وتبني منوال تنمية ليبرالي بداية من سنة 1956 إلى سمة 1962. غير أن هذا الخيار الاقتصادي للدولة لم يحقق المأمول ولم يحقق الأهداف المرسومة في مواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي جدت بعد الاستقلال كان في مقدمتها تطوير الانتاج الزراعي وتحقيق التشغيل الكامل لكل من هم في سن التشغيل والتوجه نحو التصنيع وتحقيق الاقلاع الاقتصادي غير أن هذا التوجه لم يعط أكله وكان خيار الرأسمالية خيارا فاشلا ورهانا خاسرا نتيجة غياب الرأس المال الوطني القادر على دفع البلاد نحو الأمام وفقدان الرأس المال الخاص القادر على انجاح التوجه نحو الاقتصاد الليبرالي مما اضطر القيادة السياسية إلى العدول على الرأسمالية و انتهاج خيار جديد وسلوك طريق آخر فكان التوجه نحو الاشتراكية التي عبر عنها مؤتمر المصير المنعقد في 15 اكتوبر 1964 ببنزرت والذي دعا إلى تبني الاشتراكية الدستورية خيارا اقتصاديا بديلا وطريقا جديدا نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية في إطار مخطط اقتصادي واضح المعالم والأهداف. لم يكن الرئيس الحبيب بورقيبة رجل اقتصاد ولكن كانت له ميزة خاصة وهي أن له القدرة على اقناع الجماهير والتأثير في الناس إذا ما اقتنع بفكرة أو منهج يتفق مع رؤيته للحياة فكان بعد أن فشلت التجربة الرأسمالية في حاجة إلى خطة تنموية ومشروع مجتمعي جديد يمكنه من تأطير المجتمع التونسي بكل فئاته وبلورة أهداف اقتصادية واجتماعية وثقافية لتعبئة الشعب التونسي حولها فوجد ضالته في المشروع الاقتصادي والاجتماعي الذي تقدم به أحمد بن صالح وكان وقتها كاتب الدولة للشؤون الاجتماعية والصحة. وبتبني مشروع أحمد بن صالح الاقتصادي حول الرئيس بورقيبة وجهته نحو المنوال الاشتراكي الذي كان الخيار السائد في معظم الدول الشيوعية والتوجه العام في جميع الأحزاب الاشتراكية في أوروبا بما يعني أن روح العصر في سنوات الستين من القرن الماضي كان السير نحو النظرية الاشتراكية في الاقتصاد وقد اقتنع بورقيبة بالنظرية الجديدة وتبنى منوال الاشتراكية الدستورية كمنهج والتخطيط كأداة لتنفيذ سياسة تضامنية واضحة المعالم محددة الأهداف فكان الخيار نحو تبني منوال تنمية يقوم على تلازم قطاعات ثلاث معا الأول القطاع العام الذي تتولاه الدولة في المجالات الحيوية والأساسية وفي المشاريع الكبرى التي تتجاوز قدرات القطاع الخاص والقطاع الثاني هو القطاع الخاص بتشجيع المبادرة الخاصة ودفع أصحاب الاموال إلى الاستثمار في المشاريع الصغرى و في مجال الفلاحة والصناعة والسياحة والقطاع الثالث هو القطاع التضامني من خلال تطبيق سياسة التعاضد في المجال الزراعي من خلال اعادة توزيع الأراضي ضمن وحدات انتاج تسهر على القطاع الفلاحي وقد تحمس بورقيبة لهذا التوجه الجديد واعتبره المخرج من وضع لتخلف وقد عبر عن هذا الطموح الكبير في كلمته التي ألقاها في مؤتمر المصير بقوله " ... إننا نعتبر الاشتراكية أنجع وسيلة للخروج من التخلف " وخلال عشرية كاملة عرفت البلاد تجربة التعاضد والتأميم الزراعي وتعميمه ومنوال تنمية اشتراكي يقوم على فكرة التضامن في المجال الفلاحي وفكرة التخطيط وتبني منوال للتنمية يقوم على مخططات مدروسة لتنفيذ سياسة الدولة غير أن هذه التجربة ما فتئت أن اصطدمت بواقع تونسي لم يتهيأ لها وبعقلية لم تكن مستعدة هي الأخرى لمثل هذه الأفكار فكان المنعرج الخطأ الذي عجل بإنهاء التجربة هذا المنعرج تمثل في عملية التسريع في تنفيذ التجربة والسير بسرعة قصوى لتنفيذ الاهداف وعملية تعميمها على كامل الولايات بنفس الطريقة والشكل وفق منوال واحد يطبق على كامل ولايات الجهورية والحال أنه كان من الاجدى مراعاة خصوصية كل جهة في تنفيذ الفكرة فكان تعميم التجربة في كامل تراب البلاد خطأ مثل منعرجا أفشل التجربة وأخيرا ايقاف التعاضد بتلك الصورة والطريقة المتسرعة والمفاجئة مثل هو الآخر منعرجا خاطئا وهكذا تم التوقف عن تطبيق التجربة الاشتراكية الدستورية وإنهاء عشرية الستينات بتحول مفاجئ وعنيف لا يفرضه لا الواقع ولا المنطق من دون حوار ولا تقييم لمعرفة أسباب الازمة والنجاحات التي عرفها التعاضد ومكامن الضعف الذي رافقته حيث كان من الممكن مواصلة التجربة مع إدخال شيء من التعديل والسير بخطى أخرى لكن كل ذلك لم يحصل فكان الخطأ وحصل المنعرج الذي هز البلاد وزلزل النظام السياسي . هذه قراءة تنتصر لتجربة التعاضد وتعتبر أن السياسة التي انتهجتها الدولة بتبنيها الفكرة الاشتراكية في الاقتصاد والذهاب نحو خيار التأميم الزراعي وإعادة توزيع الأراضي بطريقة تحقق هدف التضامن وتنتج الثورة وتوفر مواطن شغل للشباب هو خيار صائب وكان من الممكن على القيادة السياسية أن لا تتخلى عنها بالكامل وإنما كان يكفي أن تقوم ببعض الاصلاحات في الطريقة وتجري شيئا من التعديل في التطبيق حتى تتواصل التجربة وهي قراءة فيها الكثير من التمجيد للآباء المؤسسين وتمجيد لجيل الرعيل الأول من رجالات الدولة التونسية بعد الاستقلال بقيت أسيرة " عقدة الاعتراف " فهي قراءة لمرحلة مهمة من تاريخ تونس تبحث عن " الاعتراف " بالجميل وبالفضل للرعيل الأول بعد أدانته الثورة في كونه قد اجتهد وخطط وانجز وترفض في الآن نفسه " الاعتراف " بالأخطاء التي ارتكبتها القيادة السياسية في خياراتها الاقتصادية وفي الارتجال في التنقل من تجربة إلى أخرى من دون تقييم موضوعي ولا مراجعة علمية ولا وقوف على ايجابيات وسلبيات التجربة.