إن لغة الفرد أو الجماعة، لغة أي شعب، رسمية وطنية كانت، أو لهجة ولسانا محلّيّا لمنطقة أو مدينة أو قرية معيّنة، هي أبرز مكوّنات هويّته، وهي أول علامة من علامات ثقافته، وهي أول وسيلة اتصال وتواصل بين أفراده وجماعاته، وهي السبيل المؤدي إلى الترابط والتعارف والتعايش مع الآخرين. هذه اللغة، أيّاً كانت، وأيًّا كان مستعملها، هي " كائن حيّ "، إن صحّ التعبير، تنمو، وتتطوّر، تثرى وتفتقر، تنتشر وتندثر، مسايرة في ذلك مآل الناطقين بها، سمت إن سموا، وانحطت إن انحطّوا، كأنها لبنة من لبنات أجسامهم. فاللغة هي القلم أو الريشة التي ترسم بصدق وأمانة، صورة متحادثيها في سمع وذهن المُخاطَبين بها. كانت تونس، حتى منتصف خمسينات القرن الماضي، عندما اضطررت إلى الهجرة، من أثرى البلدان لغة، وأغناها لهجات وألسن. فكان لكل منطقة، وكل مدينة وقرية تقريبا، لسانها الخاص النابع من اللغة الأم، متمّيزا بخصوصيات عديدة، تجعل السامع يحدّد مأتى ومنشأ مخاطبه. فنغم أو موسيقى المتحدث، ونطقه لبعض الحروف، وتفاعله مع قواعد النحو والصرف، وبعض الاصطلاحات والتعابير الخاصة، تميّز نزلاء منطقة عن أخرى، ومدينة أو قرية عن غيرها، وهذا لعمري ثراء ثقافي، له أصوله وجذوره وبواعثه، لأنه إن وجد لا يوجد من عدم. ولكنه، حسب ما لمست وأسمع عبر الإذاعات المسموعة والمرئية، قد زال لينحصر في لسان العاصمة، ممسوخا مبتورا، فاقدا خصائصه العديدة هي الأخرى. إن حكمي هذا ليس قاطعا ولا شاملا، لأنه مبني على اطلاع غير شامل ولا جامع، بل هو محدود المكان والزمان، نظرا لبعدي وتغرّبي، وضيق دائرة تحرّكي إن زرت الوطن. تأكيدا، أو توثيقا لما أقول، كان ابن الجنوب مثلا، أو ابن جزيرة جربة الساحرة، وأبناء مناطق أخرى، لا ينطقون حرف القاف بل يخففونه بما يقرب من الكاف. كانوا أيضا يستعملون في مخاطباتهم صيغة المذكر والمؤنث حسب ما يتطلبه الحديث، ويتحاشون مفردات معيّنة تعتبر قبيحة غير لائقة في ألسنتهم، مقبولة مرضية في لسان العاصمة. تساءلت كثيرا وها أنا اسأل: لمَ هذا التقليد والمحاكاة؟ لماذا تركُ ما هو لك ومنك، والتستر أو التدثر بما هو للغير بينما المثل يقول: " المتغطي بمتاع الناس عريان "؟ أهو مركّب نقص؟ أهو خشية ازدراء الآخرين؟ أتمنى ألا يكون من هذا شيء. فالتفريق بين " البلدي والآفاقي" قد قضينا عليه أيام الكفاح، كما قضت الحركة الوطنية والتوعية على التعصب الجهوي والتنافر بين بعض المناطق والمدن. هل أفهم، وقد أصبحت غريبا، أن ما محوناه من أمراض اجتماعية عادت استفحالا وانتشارا؟ هل تقهقرنا بدل التقدّم والتطوّر؟ إني، لكل هذا لا أفهم ولا أستسيغ نكران أحد أصله وجذوره، ليتقمص شخصية أو شكل أو لغة غيره. يذكرني هذا بما كتبه في الستينات الأديب الشاعر الرسام المترجم الدبلوماسي الليبي الكبير الأستاذ فؤاد الكعبازي، في مقالين باللغة الإيطالية يعرّف بهما بكتابي "مائة مثل عربي – من ليبيا – نشر في الستينات من القرن الماضي في لندن بالإنكليزية، فيقول، وهو يتعرّض للمثل القائل " وين تميح الزمالة، تميح العمالة "- الزمالة هي العمامة ويُرمز بها إلى الإمام الحاكم، والعمالة هي البلد وأهله. يقابل هذا المثل بالفصحى: " الناس على دين ملوكهم ". يقول الأستاذ الكعبازي بهذه الصّدد: " يبدو أن هذا حدث أيضا بفرنسا، عندما كان أحد الملوك الفرنسيين له لكنة بلسانه، فينطق بحرف الراء بلا ذبذبة ولا رقرقة، فيأتي الصوت شبيها بحرف الغاء، فقلده في ذلك الشعب كله، حتى يظنَّ أن ما يشكوه أمر وطني عمومي، وهذا ما يجعلنا اليوم ننطق الراء الفرنسية معابة." صحّت هذه الرواية أم لا، هي تجسيم لما نحن بصدده، أي ترك المرء خصوصياته، ومميّزاته، ومكوّنات شخصيته وثقافته، وتقلّص شكل غيره، بدافع أو هي دوافع لا يعرفها تأكيدا إلا هو نفسه. لأن الغير، نحن في هذه الحالة، نستطيع تفسير هذا التقليد " المُزري " تفاسير كثيرة. أولها مركب النقص تجاه من يقلده ويحاكيه، ثم يأتي احتقار وعدم التشرف ولا الإيمان بما لديه، وهو منه وإليه، وتكثر بعد ذلك الاحتمالات كالتملّق، والنفاق، والتظاهر بما هو مفقود، والنتيجة في كلّ الحالات مخزية كريهة، تؤكد المثل الشعبي القائل " ما ينكر نسبته كان الكلب " عافاكم الله، أو المثل الآخر: " الغراب جاء يقلد مشية الحمامة، ضيّع مشيته ومشية الحمامة ". لو تمعّنّا فيما عليه اللغة المُقلَّدَة، وجدنا أنها بعيدة كل البعد عن الأصل، فاقدة لموسيقاها ورنينها، خالية من معظم وأهم مفرداتها الخاصة ومفاهيمها، دون الإحراز على إثراء أو تطوير للسان الأصلي، مع فقدان وضياع اللسان الذي تُرك وأهمل، وهو بلا شك ثمرة ثقافية غالية ثمينة، فالخسارة مضعّفة، لا مقابل لها. ليس هذا فقط. فالتعرّض لموضوع اللغة بصفة عامة، وما آلت إليه في بلادنا، يحتاج إلى أكثر من هذا المجال، كما هو من مشمولات المتخصصين المسؤولين عن التعليم والثقافة والعناية بالمجتمع وتصرّفاته. ليس جديدا القول بأن اللغة الفصحى، تعاني انحدارا كبيرا، إلى جانب ما يحاك لها، بطرق متعدّدة، عمدا من بعضهم، وجهلا من آخرين، بغية تعرّضها لما تعرّضت له لغات أخرى مثل اللاتينيّة، فاندثرت تاركة وراءها لهجات أصبحت لغات رسمية. هل يُفهم مما تقدّم أن تقليد لسان العاصمة وترك وإهمال الألسنة الأخرى بمختلف المقاطعات والمدن والقرى، معناه خلق لسان واحد للغاية التي ذكرنا؟ وما تفسير إدماج مفردات وعبارات بلغة أجنبية – الفرنسية بتونس – من المتحدثين بما فيهم المفكرون المتعلمون البارعون في اللغة العربية، إذ هم كثيرا ما يفوهون بالعبارة " مُفرنسة " مشفوعة بالأصل العربي الفصيح. أيعني هذا أنهم غير مقتنعين بفصاحة ودقة تعبير اللغة العربية؟ أم هم مشاركون عمدا في الإفساد والذبذبة؟ كثيرة أسئلتي بهذا الشأن فأضيف سؤالا آخر أختم به وهو: " هل ثمّة من يصارحنا فيقول لنا لماذا لم يتم التعريب بتونس؟ تساؤلات عدّة تحتاج إلى الإجابة والتوضيح، ووضعٌ وطريقة كلام لا شبيه لهما عند أي شعب أو أمة مؤمنة بنفسها وبما لديها، تعتز بلغتها وعلمها وثقافتها، فخورة بأصلها وممتلكاتها الفكرية. كيف ولماذا وإلى أين نسير؟ إلى الضياع والاندثار، إن لم نصلح ما فسد، خاصة منه ما بأنفسنا. إني من موقعي لا أرى إصلاحا، ولا أسمع محاولة تغيير أو تحسين، بل العكس هو الأصح. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على مساهمة صاحب الدار في هدمها، ومشاركته في تخريب ما كان لنا فنعتز ونفتخر به، وضياع ذاتيتنا وهويتنا، فنبقى فاقدين لأي اعتبار أو تقدير، ونصبح عالة على غيرنا الذي يلفظنا متى شاء ونحن للفظه مستحقون، وبه جديرون، لأن الذي لا يحترم ويعتبر نفسه لا يعتبره الآخرون. ألم يقل مثلنا الشعبي: عز نفسك تصيبها؟ خلاصة القول، إ ن مجتمعنا في حاجة إلى تكوين وتنظيم جديدين، أساسهما الهوية الأصيلة، ومكوّناتها وروافدها، وعمادها ثقافة جديدة تعيد قيمة ومفهوم الأصول والجذور، وتبث الوعي الحقيقي مع الإيمان، بعد الإيمان بالله، بالنفس وبمكوناتنا كشعب له لغته بل لغاته وألسنته وتاريخه وعلمه وثقافته، بجميعها عرف ولمع وسجل ما اعترف له به التاريخ، وذلك طوال حقب ومسارات طويلة، تذكر فتحمد، وكل هذا دون أن يضيع هويته ولا شخصيته، بل دعمهما وأصبح بهما يُميَّز فيُحترم، فأخذ مكانه ومكانته بين الشعوب. فهل بيننا اليوم مصلح أو مصلحون، يهتمون بالمجتمع وثقافته، أو سيترك الحابل على الغارب كما يقال فنهوى أكثر. فما هو مآلنا ومصيرنا كشعب؟ الجواب يأتي بالشعور بما آل إليه مجتمعنا، وباعتبار مضاره وأخطاره العاجلة والآجلة، ثم العمل على التغيير والإصلاح. ليس هذا على الله بعزيز. مدريد في 20-11-2020.